29 سبتمبر 2020

إنعام كجه جي تكتب: هل تنضب بئر الحب؟

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.

إنعام كجه جي تكتب: هل تنضب بئر الحب؟
فاتن حمامة وعمر الشريف

ـ متى كانت آخر مرة بكيت فيها أمام مشهد في فيلم عاطفي؟ فاجأني السؤال. ولعل صاحبه كان يفترض أن أتلقاه بسخرية وأحك رأسي لأتذكر متى كان ذلك، أواخر القرن العشرين أم من سنوات قلائل، مثلًا؟ ولا أدري لماذا تملكني خرس طارئ ولم أود أن أجيب عن السؤال. لكن الموضوع بقي يدور في بالي طوال النهار واقتادني إلى مناطق عذبة وشجية كنت قد نسيتها أو سهوت، عامدة، عنها. 

هل يندهش السائل إذا عرف أنني ما زلت أبكي أمام الشاشة؟ وأبكي وأنا أطالع رواية جميلة، وأختنق بعبرتي عند سماع بعض أغاني فيروز، وتسيل دموعي وأنا أستعيد قصيدة مالك بن الريب التي يرثي فيها نفسه، بل تعجز المناديل عن نجدتي حين أصغي إلى فايزة في «ست الحبايب يا حبيبة»... نحن نشاهد أفلام الحب ومسلسلاته كل يوم. ونسمع الأغنيات العاطفية ونطالع الروايات ونتلصص على قصص النجوم الغرامية في المجلات ويستعصي علينا أن نمر بالقلوب الحمر مرور الكرام. وكنا، ونحن صغيرات، لا نفهم لماذا تدمع عينا الوالدة وهي تتابع فيلمًا لأمينة رزق أو فردوس محمد. نسألها فتجيب بحكمة: «غدًا تكبرن وتفهمن».

وقد كبرت وفهمت. ورأيت سيدات تصيبهن طعنة الموت، أو الخيانة، فيسدلن الستار على المشاعر ويحبسن على الأحاسيس ويرددن «مات قلبي». فهل تنضب بئر الحب؟ فهمت أن قلوب البشر قدت من حجر صوان إلى أن تمسها تلك الشعلة الربانية فتغدو أرق من جناح فراشة. وحين أصابتني لوثة القراءة عرفت أن كل قصص الصراع والجاسوسية والمغامرات والجريمة والنضال والفقر والذل والكرامة والحرب والسلام والخسارة والانتصار... كلها... تنطوي على شعاع من تلك العاطفة التي قد تسمو وقد تتقهقر. لا حياة بدون حب. لا روايات ولا أفلام ولا أغنيات ولا رقص ولا لوحات ولا مسارح ولا فنون.

فمن أين يأتي كل أولئك المؤلفين بقصص جديدة ومختلفة سنة بعد سنة وقرنًا بعد قرن؟ أليست القضية كلها تقوم على رجل وامرأة؟ فكيف تتشعب المشاعر وتتباين وتتداخل وتنصهر بدون أن يصيبنا الملل ونشعر بأننا حفظنا الحبكة وعرفناها وما عادت تستهوينا؟ إنها البشرية التي تتجدد وتكشف عن قشرة جديدة ولحاء صقيل في كل عصر. ومعها تتلون قصص الحب وتتطور. وما كان قيس يبوح به لليلى بواسطة القصيدة صار رسائل ينقلها الحمام الزاجل. والخط الذي كان وسيلة للتواصل عبر المكاتيب صار حزمة ضوء على شاشة الحاسوب. والصوت الذي كان يصب في الأذن عبر هاتف سلكي ذي قرص وأرقام تدار بالأصابع صار يصلنا من شريحة في قبضة الكف. واختفت من الأفلام مشاهد البنت التي تتحايل على أهل البيت لكي تسحب الجهاز وسلك التلفون إلى غرفتها وتتكلم مع حبيب القلب. كما اختفت مشاهد الشاب الذي يطلب رقم الحبيبة ويغلق الخط حين يرد عليه أبوها. تقول الست: «حبك أنت شكل تاني». وهو اليوم شكل ثان بالفعل. لكنه ما زال يؤثر فينا ويفرحنا ويبكينا ويشعرنا بأننا ما زلنا على قيد الحياة، نتنفس وننفعل ونتلمس إنسانيتنا. وإنسان بدون حب، أو حتى وهم حب، هو كائن يبكيني أيضًا.

 

مقالات ذات صلة