28 أبريل 2020

مبتعثون من الإمارات يحاربون كورونا في عقر داره

كاتبة صحافية

كاتبة صحافية

في باريس ومرسيليا وتولوز وبوردو وبرلين، يقف أطباء وطبيبات مبتعثون من دولة الإمارات، مع زملائهم الأوروبيين ليصدوا الهجمة الشرسة لوباء كورونا. لقد جاؤوا للحصول على تخصصات عالية وتدريبات في فروع طبية مختلفة ثم وجدوا أنفسهم جنوداً في جيش إنساني يحارب عدواً لا يفرق بين عرق أو دين أو جنس أو جنسية. 
«كل الأسرة» تعرفت إلى عدد من هؤلاء الأبطال ونقلت جانباً من يومياتهم.

 د. عائشة المنذري مع زميلات فرنسيات
 د. عائشة المنذري مع زميلات فرنسيات 

ليست هي المرة الأولى التي أضطر فيها لإجراء مقابلات بالهاتف. فالصحافي يواجه في حياته المهنية ظروفاً تجبره على التواصل مع مصادره بالصوت والصورة دون أن يواجههم مباشرة. لكنها واحدة من المرات القلائل التي كان قلبي يخفق فيها وعيناي تدمعان وأنا أستمع إلى شهادات هؤلاء الطبيبات والأطباء الذين يقيمون على مسافة آلاف الكيلومترات عن وطنهم وأهاليهم، ويقضون ساعات لا عدّ لها في مستشفيات أجنبية، يواجهون جائحة لم يعرف العالم مثيلاً لقسوتها من قبل. لقد جاؤوا إلى فرنسا وألمانيا طلباً للعلم الذي أوصتنا العقيدة السمحاء بأن نطلبه ولو في الصين. وها هم بالمقابل يردون الجميل لمستشفيات فتحت لهم أبوابها، ولمرضى من غير عرقهم ودينهم وثقافتهم، يعالجونهم لأنهم أدوا القسم الذي وضعه أبو قراط، قبل الميلاد، والذي ينطق به خريجو الطب في كل أرجاء العالم. 

الدكتورة عائشة المنذري

الدكتورة عائشة المنذري

نحن أبناء زايد، تربينا على المساعدة

من مستشفى «بيشا» التعليمي، أحد أكبر وأهم مستشفيات باريس، جاءني صوت الدكتورة عائشة المنذري، الطبيبة الإماراتية المبتعثة من هيئة الصحة في أبوظبي، والمقيمة في قسم الولادة وأمراض النساء. كانت تكلمني وترد على أسئلتي بهدوء كامل، على الرغم من أنها كانت خارجة من مناوبة دامت 24 ساعة متواصلة. فالمستشفى الذي تعمل فيه كان أول مستشفى في فرنسا قام بإدخال مرضى فيروس كوفيد ـ 19، وتقديم الرعاية الطبية لهم باعتباره مستشفى مرجعياً. وبعد تفشي الوباء تم توزيع المرضى على جميع المستشفيات في باريس، ثم تحويلهم إلى المراكز الصحية في المدن الأخرى، بعدما اكتظت العاصمة بالمصابين. تشرح لنا الدكتورة عائشة أن في القسم الذي تعمل فيه جناحاً خاصاً بالعناية المركزة يهتم بالحالات الحرجة، وجناحاً آخر يعني بالحالات المتوسطة. وهي تشارك زملاءها في الإشراف اليومي على المريضات وتقديم الرعاية الصحية لهن. كما أنها تتواصل مع الحوامل اللواتي لا يحتجن رعاية طبية خاصة، من خلال تطبيق إلكتروني لمتابعة تطورات الحمل، دون الحاجة لحضورهن إلى المستشفى. وإلى جانب ذلك فإنها تتولى توليد النساء يومياً، بما فيها حالات تكون الوالدة فيها مصابة بالفيروس. وهي حالات تستدعي فصل الوليد عن أمه والعناية به في مكان آمن لحين تعافيها وعودتها إلى البيت. إن كل يوم يمر على الدكتورة عائشة هو تجربة مؤثرة لا تغنيها كطبيبة فحسب بل كإنسانة.

جاءت الدكتورة عائشة إلى فرنسا منذ ست سنوات لكي تتدرب وتتخصص، وقد تنقلت ما بين عدة مستشفيات حسب ضرورات تحصيل الخبرات. وبعد ظهور الوباء، تم إغلاق العديد من الأقسام لكي تتوجه جهود الأطباء والطاقم التمريضي إلى علاج المصابين. وواصل قسمها نشاطه لأنه من الأقسام الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وهو للمرضى العاديين ومرضى «كورونا» أيضاً. لذلك ازداد ضغط العمل بسبب تزايد المرضى واضطر قسم النسائية إلى طلب تعزيزات من الأطباء حديثي التخرج ومن طلاب كليات الطب لكي يساعدوا زملائهم المتمرسين. 
درست الدكتورة عائشة في كلية دبي الطبية وتخرجت سنة 2009، وهي متزوجة وزوجها موجود في الإمارات، يتحدثان بالهاتف كل يوم ويحرص على أن تشعر بأنه معها دائماً. وهو يشجعها بكلامه وأدعيته فتشعر بالاطمئنان حين تسمعه يقول لها: «استودعناك الله». إن حياتها في خطر، لكنها لم تتخلف عما يمليه عليها ضميرها، وتقول: «يتعجب زملائي وزميلاتي الفرنسيون من بقائي أشتغل معهم. يقولون كيف لم تحزمي حقائبك وتعودي إلى وطنك وبقيت في بلد ترتفع فيه وتيرة الضحايا ويموت فيه المئات كل يوم؟ أرد عليهم أن ما أقوم به هو أمر عادي، فأنا من دولة اعتادت مساعدة الدول الشقيقة والصديقة في الملمات، وأنا أستمد طاقتي من دولتي الإمارات العربية المتحدة، التي تشجعني وتوفر لي المستلزمات العلمية والمادية. نحن جزء من الإمارات في سلوكنا، تربينا على المساعدة والتضحية منذ الصغر. نحن أبناء زايد». تطلب مني الدكتورة عائشة أن أنقل شكرها إلى شيوخ الإمارات وسفير بلادها، وإلى إخوتها الدبلوماسيين وجميع العاملين في السفارة، على اهتمامهم ومتابعتهم للمتدربين والمبتعثين، وتضيف: «أرجو أن تنقلي تحياتي، عبر مجلتكم، إلى شيوخنا وإلى جميع العاملين في القطاع الطبي والأمني في بلادنا، إنهم يوفرون أقصى جهودهم لرفعة الوطن وخدمة الجميع. ولا أنسى أهلي وزوجي وأختي خولة الذين كرمني الخالق بوجودهم في حياتي، لذلك أنا ممتنة لدعمهم الدائم لي، هم وجميع الأصدقاء الذين يساندونني». 

الدكتورة أمل آل علي

الدكتورة أمل آل علي

زملاؤنا الفرنسيون يقدرون تفانينا ومشاركتنا لهم

من باريس ينقلنا الهاتف إلى مدينة تولوز، جنوبي البلاد، لنستمع إلى تجربة الدكتورة أمل حنتوش آل علي، المقيمة في قسم جراحة الجهاز الهضمي بمستشفى «رانجوي» التخصصي، أشهر المراكز العلاجية في المدينة. إنها حاليًا في سنتها الخامسة في فرنسا، وقد تنقلت بين عدة مستشفيات لأنها أرادت التعرف إلى أقسام الجراحة العامة، قبل أن تنهي تدريبها بعد ستة أشهر. تقول: «حين داهمنا الوباء تهيأ قسمنا والمستشفى كله لمواجهته وكأننا في حالة حرب. لقد ألغيت كل العمليات غير المستعجلة، باستثناء الجراحات السرطانية والعلاج الكيمياوي. إن البروتوكول العلاجي يتغير كل يوم، مثل الخطط الاستراتيجية في الحرب، تبعًا للحاجة ولعدد المرضى، ونحن مجندون لقتال الوباء الذي خصصنا له وحدة علاجية كاملة في قسمنا». في بداية انتشار «كورونا» تركزت العدوى في شرق فرنسا وارتفعت فيها أعداد الإصابات. أما في تولوز، حيث تعمل الدكتورة أمل، فإن عدد المصابين يقارب 200 مريض، بينهم 23 في العناية المركزة. تقول إن تزايد الحالات جعل المستشفى يضع كل مريضين في غرفة، وتبين: «بعد خروج المريض من العناية نستقبله لاستكمال شفائه قبل عودته إلى البيت». ومن المعروف أن كثيراً من الحالات تتطلب وضع أصحابها قيد الغيبوبة الصناعية، وعند تراجع المرض وإفاقتهم من الغيبوبة تكون عضلاتهم قد تعرضت للتخشب مع اضطرابات ذهنية تحتاج رعاية وتأهيلاً معيناً. تتصل الدكتورة أمل بأسرتها في الشارقة كل يوم، تتحدث مع والدتها التي تنقل الأخبار إلى الوالد. وتقول: «إذا لم أتصل فقد أبلغت أمي بألا تقلق لأنني أكون غالباً مشغولة. وأحياناً أبعث لها رسالة موجزة لتطمئن إليّ. إن دعاءها لي هو الأمانة والسلامة. أما أبي فقد اتصلت به لأخبره بأنني باقية في فرنسا فتمنى لي التوفيق وقال: انتبهي على عمرك». أما الزملاء والزميلات الفرنسيون فإنهم يقدرون تفانيها ومشاركتها إلى جانبهم في الحرب الكورونية العالمية، ويمرون على مكتبها لتحيتها، مع علمهم أنها يمكن أن تعود إلى وطنها حالما يحتاجها. هل من تحيات إلى الأسرة عبر «كل الأسرة»؟ تكتب لي الدكتورة أمل رسالة نصية ترجوني تضمينها في التقرير، جاء فيها: «أود أن أقدم شكري وامتناني لعائلتي التي كان أفرادها سبباً في استمراري واستكمال مسيرتي. هم من وقفوا معي بأشدّ الظروف ومن حفزوني على المثابرة وعدم اليأس. شكراً لكم من أعماق قلبي على عطائكم ودعمكم الدائم، فلكم مني كلّ الثناء والتقدير. أنا أحبكم وسوف أراكم قريباً إن شاء الله».

الدكتور محمد الفلاسي

الدكتور محمد قرواش الفلاسي

واجبنا كأطباء يحتم علينا المشاركة

من مرسيليا، على الساحل الجنوبي لفرنسا وثاني أكبر مدينة فيها، جاءنا صوت الدكتور محمد قرواش الفلاسي، ابن إمارة دبي الذي يعمل حالياً في مستشفى المدينة الجامعي كمتدرب في قسم جراحة المخ والأعصاب. إنه يحكي لقراء «كل الأسرة» عن ظروف العمل التي طرأت بعد انتشار وباء «كورونا» ويقول إن الضغط قد تراجع عن كثير من أقسام المستشفى لكي تتحول جهود الأطباء والمسعفين إلى قسم الطوارئ وقسم الأمراض السارية والمعدية وأمراض الرئة. يضيف: «صار علينا كأطباء في غير هذه الأقسام أن نشارك في المجهود العام ضد الوباء. وقد كنت من بين الذين سجلوا أسماءهم لدى قسم العناية المركزة للاستعانة بنا عند الحاجة. وحتى الآن ما زال الوضع تحت السيطرة». وصل الدكتور محمد إلى فرنسا، مع زميل له، أواخر عام 2014 والتحق بدروس تعلم اللغة الفرنسية في معهد «الأليانس» في باريس ونال شهادة منه. وهو المعهد الذي يقصده أغلب المبتعثين العرب والأجانب للدراسة في فرنسا. بعد ذلك تنقل في عدة أماكن قبل أن يصل إلى مرسيليا، المدينة البحرية والميناء الكبير المطل على المتوسط من ضفته الشمالية. وكعادة أهل الإمارات، فإن الدكتور محمد الفلاسي يتطوع للمساعدة بكل طيبة وصفاء، وهي الخصال الجميلة التي تجعله محبوباً من كل زملائه في العمل. ومن يرى صورة هذا الشاب النحيل لا يصدق أنه طبيب جراح يفتح الجمجمة ويعالج المخ.

الدكتور عبدالله الحربي

الدكتور عبدالله الحربي

من العاصمة الألمانية برلين تحدث لنا الدكتور عبدالله الحربي. وهو من مدينة العين، ويعمل في المستشفى الجامعي للمدينة مع عدد من المتدربين الآخرين من الإمارات، أما تخصصه فهو الباطنية والقلب. وكان قد عمل في قسم العناية المركزة الخاص بقسمه حيث تولى الاهتمام بالمرضى الراقدين فيه ممن أصيبوا بجلطات دماغية أو أزمات قلبية أو أولئك الذين يحتاجون رعاية خاصة بعد العمليات الجراحية الكبرى. وحال ظهور مرض «كورونا» تم استدعاؤه مع زملاء له إلى العناية المركزة لمواجهة ضغط العمل هناك، حيث ساعات الدوام تكون على شكل نوبات تستمر ما بين 10 و12 ساعة. ترافق الدكتور عبدالله أسرته المكونة من زوجته وابن وابنة، وهو مضطر للقلق لا على مرضاه فحسب بل على عائلته الصغيرة أيضاً بسبب الخوف من العدوى. ويقول إنهم يتبعون الحجر الشامل ولا يخرجون من البيت إلا للضرورة، وهو الذي يقوم بتوفير احتياجاتهم ومعظم مشترياتهم. ذلك أن كل شيء متوقف والنقل العام شبه معطل. ويضيف: «إن زملاءنا الألمان يقدرون عملنا، ونظرتهم إيجابية لنا».

الدكتورة علياء الكلداري

الدكتورة علياء الكلداري

أقيم في المستشفى وأداوم في البيت

آخر من جمعنا الهاتف بهم كانت الدكتورة علياء كلداري التي لها مع فرنسا حكاية طويلة. فهي قد أنهت دراسة الطب في الإمارات وتخصصت في موضوع دقيق هو جراحة الأعصاب للأطفال، ولم تكن هناك طبيبة إماراتية تمارس هذا التخصص قبلها. تعمل حالياً في المستشفى الجامعي «سان أندريه» بمدينة بوردو، جنوب غرب البلاد، في قسم مختلف هو الأمراض الجلدية والتناسلية، فهي متعددة الاهتمامات، وإلى جانب عملها الجراحي ظهرت لديها اهتمامات بالمبادرات الاجتماعية وبالسياسات الإدارية، وكانت قد حصلت على الماجستير في السياسات الصحية من «أمبريال كوليج» في لندن. 

تقول: «هناك ضغط عملي، حالياً، على الأقسام ذات العلاقة بالفيروس الوبائي، مثل تخصص الأمراض المعدية والطوارئ والعناية المركزة. وكنت أعمل في قسم العيادات والاستشارات الخارجية حين أصيبت إحدى زميلاتنا بالمرض وصار لدينا نقص في القسم. إن مراجعي العيادة الخارجية يحملون أمراضاً معدية أو يحتاجون لجراحات سريعة، وبينهم من يعانون أوراماً خبيثة تتعلق بالجلد، وواجبي أن أتبعهم أولاً بأول. لهذا واصلنا عملنا في استقبال المرضى مع الميل لأن تكون الاستشارات بالهاتف أو بالبريد الإلكتروني. وطوال ساعات الدوام لا يتوقف الهاتف عن الرنين حيث نعمل لأكثر من 8 ساعات، بحيث إنني أمزح مع زميلاتي وأقول لهن إنني أقيم في المستشفى وأداوم في البيت. ونهار أمس، على سبيل المثال، طلبوني في الإنعاش والسبب هو وجود مريضة تم تشخيصها مصابة بالفيروس وقد بدأت تظهر عليها عوارض طفح جلدي واحمرار في الوجه، بدون الضيق المعهود في التنفس. فهذا المرض يكشف لنا كل يوم عن وجوه جديدة. وقديماً كنا نقول إن حالة الإنسان الصحية تنعكس على جلده وأظافره وشعره، وها نحن نواصل العمل بتلك الحكمة القديمة».

تتصل الدكتورة علياء بوالدتها بالهاتف تحدثها عن التوتر الذي تعيشه، وترد الوالدة بأن توتراً يفرق عن توتر، فهناك التوتر الذي يسبب القلق وهناك التوتر الذي يحفزك على العمل. وهي عندما تقرأ عن تاريخ الأوبئة في العالم، لاسيما فترة الحمى الإسبانية التي أودت بالملايين في أوائل القرن الماضي، تجد أن الأطباء كانوا يهربون من المشافي خشية العدوى والموت، أما اليوم فإن الطب قد تقدم وهو يوفر للطبيب الحماية الكافية لمواجهة الخطر بقلب قوي. لذلك تقول: «عرفت الخطر منذ اليوم الذي اخترت فيه دراسة الطب وارتديت الصدرية البيضاء، وأنا حين ألبسها وأستقبل المرضى فإن كل الفوارق الدينية والعرقية والجنسية تزول بيننا ويصبح المريض الذي أمامي إنساناً ضعيفاً محتاجاً للتعاطف والتطبيب والطبطبة. إن الإنسان يكبر عندما يشتغل بهذه المهنة. وقد زاد إيماني بربي بعد التجارب الإنسانية التي أعيشها يومياً.
الدكتورة علياء هي «بنت دبي» كما تصف نفسها، وهي البنت البكر ولها شقيق وشقيقتان، والهاتف لا يتوقف بينها وبين والدتها. وهي لا تنكر أنها واجهت صعوبات مع زملائها الفرنسيين، في البداية، بسبب اختلاف الثقافات وشعور بعضهم بالتعالي، لكن الحال تغيرت وكثير من الزملاء والزميلات صاروا أصدقاء لها، وهو أمر انسحب على الممرضات والسكرتيرات أيضًا، وهي تعمل لهم أنواع «الكيك» كما وعدتهم بطبخة برياني. وتضيف: «السفارة الإماراتية في تواصل مستمر معنا للسؤال علينا وتلبية ما نحتاج، ومنهم المرشد الأكاديمي الدكتور عبدالرحمن الرفاعي، والملحق الثقافي طارق الشحي، لذلك لا نشعر بالغربة لأنهم يتحرون احتياجاتنا على الدوام». أضع سماعة الهاتف بعد أن أتمنى لهم السلامة والتوفيق، وبدورهم يوصونني: ابقي في البيت لأن المرض ليس مزحة، وقد تجاوز عدد الذين أودى بهم 12 ألف ضحية. 

 

مقالات ذات صلة