6 أغسطس 2020

إنعام كجه جي تكتب: العاشق الأعمى

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.

إنعام كجه جي تكتب: العاشق الأعمى

يقولون إن الحب أعمى. يقصدون أن من يقع في شباك الغرام يفقد قدرته على رؤية الأمور بحجمها الحقيقي، خارج أبعاد عاطفته. وأظن أنني استشهدت في مقال سابق بالمثل الشعبي: «القرد في عين أمه غزال». لكن الرجل الذي أتحدث عنه، وتعرفونه، كان فاقدًا للبصر بشكل كامل وإن لم تنقصه البصيرة. 

وأقصد به عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين. كان أديبًا وأستاذًا وناقدًا فذًا. وإلى جانب تلك الصفات كان عاشقًا فذًا. أحب زميلته الفرنسية سوزان وهي بدورها تولعت به ووافقت على الزواج منه لتصبح العينين اللتين يقرأ بهما.
 لماذا نستغرب إذا اقترن أعمى بمبصرة؟ هل هناك قانون يفرض على الأخرس أن يتزوج خرساء، والأعرج عرجاء، والمشلول امرأة لا تقدر على النهوض والمشي؟ 

خطرت على بالي هذه التساؤلات وأنا أقرأ بحثًا طبيًا صدر في فرنسا عن الحياة الحميمة للمعاقين، ذوي الاحتياجات الخاصة. أي عن ذلك الحق في العلاقة الجنسية التي يمارسها البشر «المكتملون»، أو «كاملو الخلقة»، أي من ليس له احتياجات خاصة. هل نحرم المقعد أو مبتور الساق أو «المنغولي» المصاب بمرض متلازمة داون، من نزعته نحو إقامة علاقة بالجنس الآخر؟ يؤكد العلم أن الغريزة لا تموت إذا فقد الإنسان طرفًا من أطرافه أو خذلته واحدة من حواسه الخمس أو أصيب بمرض أو حادث أفقده قدرات جسمانية معينة. فالأخرس، أو الأصم، أي «الأطرش زي حالاتي»، له قلب يخفق بالحب ورغبات طبيعية مثل باقي البشر. وهو يريد أن يتزوج ويصبح له أولاد مثل غيره من الآباء. وقد اقترن طه حسين بالسيدة سوزان وأنجبا ولدًا وبنتًا. ولم يعير أحد تلك المرأة الشجاعة بأنها «تزوجت أعمى». لكنها في مذكراتها تحكي عن استغراب مجتمعها ووالديها من قرارها بالاقتران بذلك «المصري الأسمر مديد القامة الذي سيأخذها بعيدًا عن أهلها وبلدها».

في البحث الفرنسي الذي قرأته تفاصيل كثيرة عن اضطرار ذوي الاحتياجات الخاصة لكتم مشاعرهم الحميمة خشية أن يسخر الآخرون منهم. وهناك كثيرون يرتبطون بقصص حب ويمارسونها في السر لأن المجتمع لا يفهم رغباتهم بل ويعتبرها خروجًا على الطبيعة. وأنا هنا لا أتحدث عن العباقرة المعاقين الذين تزوجوا شابات جميلات، مثل الدكتور ستيفن هوكينج، عالم الفيزياء البريطاني الشهير. إن أمثال هؤلاء يملكون من المواهب والشهرة والمال ما يجتذب إليهم النساء. لكن المقصود هم أولئك الأشخاص العاديون القابعون في المصحات ومراكز الرعاية والمنسيون في الغرف الخلفية للبيوت. إن آباءهم قد يخجلون منهم ويعتبرون الإعاقة وصمة في شرف العائلة. 

لي قريب أصيب بشلل الأطفال حين كان في الثالثة من عمره، وكبر وهو يستخدم قالبًا يساعده على استخدام ساقه اليسرى، مع عرج واضح. وهو كان متفوقًا وله من الإصرار ما جعله يتقدم لدخول كلية الطب. ولما رفضوا قبوله بسبب «عدم اللياقة الجسدية» كتب رسالة مؤثرة لرئيس الجمهورية وتم قبوله طالبًا يدرس الطب ويتفوق على أقرانه ويسافر للتخصص في أعرق جامعات الولايات المتحدة.
 قبل السفر، تقدم يطلب يد ابنة خالته التي كان يحبها وتحبه. لكن خالته رفضته لأنه «أعرج». وفي أمريكا أصبح أستاذًا في الطب ومن النوابغ الذين يشار لهم بالبنان في جراحة الأعصاب الدقيقة وتزوج طبيبة من تلميذاته دون أن ينسى جرح قلبه. في فرنسا تتدخل الجمعيات الإنسانية لتوفير حق العلاقات الحميمة للمعاقين. وهناك نواد يرتادونها للتعارف، ومواقع تجمعهم للتواصل الاجتماعي، وهم يطالبون اليوم بالحق في ممارسة عواطفهم بشكل علني، وليس في الخفاء، لأنهم ليسوا فئة ضالة.

 

مقالات ذات صلة