إزاء صعوبة يواجهها الطفل الذي لم يكتمل نمو دماغه، تراه يرد بطريقة غير متوقعة. وبدل تركه في حالة رفض وتصلب، يمكن أن تساعدوه على الانفتاح أمام مشاعره وأمام الآخرين والعالم عبر تنمية ذكائه ومرونته، وهذا ما يسمى بالمرونة الدماغية التي تحافظ على التوازن النفسي والعقلي. ومن الضرورة بمكان مساعدة الطفل على تطوير الكفايات المطلوبة لبلوغ هذه المرحلة.
نحن نرغب في الأفضل لأطفالنا: السعادة والقوة الداخلية، النجاح المدرسي، الكفايات الاجتماعية، الثقة بالنفس.
ولكن من أين نبدأ وعلامَ نركز جهودنا أولاً لمساعدتهم على عيش حياة سعيدة وذات معنى؟
يقدم كتاب «علموا دماغ طفلكم أن يقول نعم» للمؤلف د. دانيا سيغل وتينا باين بريسون الإجابة التي نحاول أن نقدمها عن هذا السؤال:
كتاب «علموا دماغ طفلكم أن يقول نعم»
وفكرته الأساسية هي مساعدة الأهل أطفالهم على تنمية «دماغ إيجابي» ينتج أربع كفايات أساسية، وهي:
- التوازن: القدرة على التعامل مع الانفعالات والسلوك حتى لا يخرج الطفل عن طوره ويفقد السيطرة على نفسه
- المرونة: أو القدرة على الوقوف مجدداً بعد مواجهة محن الحياة التي لا بد منها.
- الاستبطان أو سبر أغوار النفس: القدرة على النظر إلى الذات وفهمها من أجل اتخاذ القرارات المناسبة بعدها.
- التعاطف: أو القدرة على فهم وجهة نظر الآخرين والاهتمام بهم بما فيه الكفاية ومساعدتهم عند الضرورة.
ماذا يعني دماغ إيجابي ويقابله دماغ سلبي؟
الدماغ السلبي: هو الذي يجعلنا متهورين في تعاملاتنا مع الآخرين عاجزين عن الإصغاء أو عن اتخاذ القرارات الجيدة أو إقامة العلاقات التي تأخذ الآخرين بالحسبان. هو نمط صراع البقاء والمحافظة على الذات ضمن سياق من الحذر والانغلاق على العالم وعلى ما يعلّمنا إياه.
وهو رد فعل غريزي يجتاحنا في الحالات الطارئة لنرد بواسطة العدائية أو الهرب أو الجمود.
أما الدماغ الإيجابي: فهو يستخدم دوائر دماغية مختلفة تولد الانفتاح والتقبّل بدل الاندفاع والتهور.
يطلق العلماء عليه «نظام الالتزام الاجتماعي» حيث مجموع الدوائر العصبية تسهل قيام علاقة صحيحة مع الآخرين ومع أنفسنا، ما يزيد قدرتنا على مواجهة ما نعيشه بدينامية ووضوح رؤية ومرونة. وهي تساعد على الهدوء والتناغم ما يسمح لنا بالحصول على المعلومات التي تلزمنا من أجل استيعابها واستخلاص العبر منها.
وهذا بالتحديد ما نريده لأطفالنا: أن ينظروا إلى المصاعب والتجارب الجديدة، ليس كعقبات تشلّ حركتهم، لكن كمجرد تحديات ينبغي التعاطي معها وكمصدر للدروس.
فحين يتبنون هذه الطريقة بالنظر إلى الأمور، سيكونون أكثر مرونة وانفتاحاً إزاء الحلول الوسط وأكثر ميلاً للمغامرة في استكشاف العالم مدفوعين بفضوليتهم وخيالهم من دون أن يخشوا الوقوع في الأخطاء التي لا بد أن يتعلموا منها الدروس المطلوبة.
وسيصيرون أقل عناداً وتشبثاً بآرائهم ما سيحسن كفاياتهم الاجتماعية ويمكنهم من التأقلم بشكل أفضل وإبداء مرونة أكبر إزاء المشكلات الكبرى.
سيتمتعون بفهم جيد لأنفسهم ويمتلكون بوصلة داخلية تقود خياراتهم بوضوح. وبفضل توازنهم النفسي، سيتمكنون من قول «نعم» للعالم وقبول ما تقدمه لهم الحياة حين لا تسير الأمور دائماً بحسب ما يرغبون فيه.
كيف نشجع أطفالنا على المرونة و تقبل الحياة كما هي؟
الخبر الجيد هو أنه بمقدوركم أن تشجعوا على قيام هذه المرونة وهذا الانفتاح لدى أطفالكم، وهذا ما نسميه القوة النفسية الداخلية.
ليس المطلوب أن تلقوا على مسامعهم محاضرات طويلة حول هذه الأمور ولكن أن تستغلوا ببساطة كل تفاعلاتكم اليومية معهم واضعين في الاعتبار مبادئ الدماغ الإيجابي، حيث إن بإمكانكم استخدام الوقت الذي تمضونه معهم في الحياة اليومية وحتى عندما تتشاجرون معهم لتؤثروا في طريقة ردة فعلهم إزاء مختلف الوضعيات والحالات.
هكذا يعمل الدماغ الإيجابي..
أنتم تملكون هذه القدرة لأن الدماغ الإيجابي هو أكثر من مجرد حالة نفسية أو طريقة لمقاربة العالم.
هو كذلك بالطبع لكنه نتيجة نشاط منطقة في الدماغ تدعى القشرة الجبهية وهي مساحة تواصل وترابط العديد من المناطق الدماغية الأخرى، وهي تتحكم بالفكر المراقب وتحرك الفضول والمرونة والتعاطف والاستبطان والانفتاح الذهني وحل المشكلات وحتى الحس الأخلاقي.
وعندما يكبر الأطفال سيكونون بحاجة أكثر فأكثر إلى وظائف هذا الجزء من دماغهم. وهذا يعني أن باستطاعتكم أن تعلموهم ما يمكنهم من تنمية هذه المنطقة الأساسية للتمتع بالقوة النفسية حتى يصيروا قادرين على حسن السيطرة على عواطفهم والإصغاء باهتمام إلى بواطنهم.
فالدماغ الإيجابي هو بنية مؤلفة من خلايا عصبية تساعد الصغار والكبار على مقاربة العالم بمرونة وتعاطف وصدق وانفتاح.
ما هو الدماغ السلبي؟
أما الدماغ السلبي، فهو بنية دماغية أقل اندماجاً تجند المناطق السفلى والأكثر بدائية من الدماغ على حساب القشرة الجبهية.
وهو ينشط رداً على تهديد أو هجوم وشيك ويكون متأهباً باستمرار يخشى الوقوع في الخطأ أو أن يجر فضوله عليه الويلات.
وهو مستعد كذلك للهجوم دفاعاً عنه ضد أي معلومة جديدة وكل ما يأتيه من الآخرين، لتكون استراتيجيته المفضلة الهجوم أو الرفض لمواجهة مختلف الأوضاع.
لا يرى الدماغ السلبي في العالم سوى المنافسة والتهديد ويقارب كل شيء بعناد وقلق لأنه غير مستعد لمواجهة المصاعب وبلوغ فهم جيد للذات وللآخرين.
الأطفال الذين يعملون على نمط الدماغ السلبي يكونون تحت رحمة الظروف وتحت رحمة مشاعرهم إذ أنهم غارقون فيها ويعجزون عن ضبطها ويشتكون من وضعهم بدل أن يتحركوا بشكل سليم حتى يجدوا الحلول المناسبة.
يقلقون أحياناً بطريقة هوسية عند فكرة أنهم سيواجهون جديداً أو أنهم سيقعون في الخطأ، بدل أن يتخذوا قرارات مدفوعة بالفضول والانفتاح الذهني ما يجعل العناد هو القانون في الدماغ السلبي.
كيف نعلم أطفالنا تجاوز الحالة الذهنية السلبية؟
يمكننا أن نعلّم أطفالنا كيف يبقون أقل وقت ممكن في هذه الحالة الذهنية السلبية. والأهم أن باستطاعتنا أن نقدم لهم الأدوات التي تمكنهم من القيام بذلك لوحدهم.
نعرف أن صغار الأطفال يلجأون إلى الدماغ السلبي أكثر من كبارهم، وهذه هي الوضعية الدائمة لدى الأطفال في الثالثة وهي تتصل بدرجة نمو دماغهم، كما الطفل الذي يبكي حنقاً لأن قلمه قد تبلل في حين أنه هو من رماه في الماء!
ويتعين علينا أن نساعدهم على اكتساب هذه القدرة على ضبط النفس والوقوف مجدداً بعد المصاعب وعلى فهم تجربتهم الخاصة والاهتمام بالآخرين.
خذوا بضع دقائق لتتخيلوا ما يلي: ما الذي سيتغير في المنزل في ما لو تصرف أطفالكم بالشكل المناسب إزاء مشاكل الحياة اليومية ؟
أي حين يتوقفون عن الشجار في ما بينهم، ويطفئون هواتفهم وحواسيبهم محترمين التعليمات ليقوموا بواجباتهم المدرسية ويذهبوا إلى النوم في الوقت المحدد؟
ما الذي سيتغير إذا كانوا أقل عناداً وأكثر قدرة على ضبط أنفسهم وتنظيم حياتهم ؟ ألن يكونوا أكثر سعادة ومعهم العائلة بأسرها؟
الدماغ الإيجابي لا يعني السماح بكل شيء. ليس المطلوب أن نقول «نعم» طيلة الوقت لأطفالنا ولا أن نتراخى معهم فنعطيهم كل ما يريدون ونحميهم من خيبات الأمل أو نهرع لمساعدتهم عند أدنى مشكلة.
والدماغ الإيجابي لا يعني كذلك أن نجعل منهم كائنات مطواعة بشكل ميكانيكي من دون أن يفكروا بأنفسهم، بل تجدر مساعدتهم على إدراك من هم وما هي قدراتهم وأن نقول لهم أنهم قادرون على تخطي الأزمات والخيبات والفشل من أجل بلوغ حياة غنية بالتجارب والعلاقات والمعنى.
وسيكون كذلك من الخطأ الاعتقاد أن الدماغ الإيجابي يجعل المرء سعيداً باستمرار ولا يقود أبداً إلى الإحساس بالمشاعر السلبية، وهذا مستحيل في أي حياة كانت.
وهو لا يقود كذلك إلى الكمال أو إلى جنة الإحساس، بل يمكّن المرء من إيجاد فرح ومعنى للحياة حتى لمّا تكون متسمة بالصعوبة.
ولنكن صريحين: يعيش الأطفال في عالم يسيطر عليه الدماغ السلبي.
فكروا بيوم يقضونه في المدرسة مملوء بالأوامر والقواعد والمراقبة والتعلّم عن ظهر قلب والانضباط الذي يطبق على الجميع من دون تمييز.
ثم فكروا بكل ما يتوجب عليهم القيام به عند العودة من المدرسة من فروض وواجبات ونشاطات...
ولا ننسى القوة الجاذبة التي تمثلها اليوم الأدوات الرقمية مع كل محفزاتها البصرية والسمعية التي تستقطب انتباههم طيلة النهار في متعة هاربة.
لندرك أن تنمية الدماغ الإيجابي لديهم هي ضرورة في عصرنا هذا لأنه فرصتهم لعيش حالة حقيقة من السعادة الدائمة المفعمة بالمعنى والعلاقات الوطيدة والسكينة الداخلية.