هناك كتب أشعر بالنفور من موضوعاتها، أو من مجرد عناوينها، ومع هذا أندفع إلى مطالعتها من باب الفضول أو لضرورات المهنة. ومنها هذا الكتاب للباحثة الفرنسية ماري إستيل دوبون. والمؤلفة متخصصة في العلاج النفسي. وعنوان كتابها «الأم المضادة»، وهو يتناول مصير أولئك الأبناء الذين يفرض عليهم القدر أن يعيشوا في أحضان والدة عنيفة، غيورة، مسيطرة، تنظر إلى الآخرين بمنظار أسود.
تتعلم البنت من أمها، في العادة، مبادئ الأنوثة والقيم الإنسانية. أي اللطف والرقة والتهذيب والتعامل الجميل مع رفيقاتها وأقربائها. لكن هذا لم يحدث مع المؤلفة بل حدث العكس. فهي تعترف بأن والدتها كانت غيورة غيرة تقترب من المرض. كما أنها حاولت السيطرة على ابنتها وجرها إلى معسكرها. وقد كادت تلك التربية أن تدمر البنت. ولعلها تخصصت في علم النفس بسبب نشأتها الصعبة مع والدة تتعامل بعنف وتسلط.
حين كبرت البنت وبلغت سن المراهقة، بدأت الأم تشعر بالغيرة منها. تقول المؤلفة «كانت تعتبرني منافسة لها. وكانت تغضب أشد الغضب إذا امتدح رجال العائلة جمالي ولا تغفر لي ذلك وتعتبرني اشتركت مع الغير في الإساءة لها عن قصد».
من الخارج، كانت الأسرة تبدو سعيدة ومترابطة. فالبنت مدللة وسط أربعة أشقاء ذكور والأم ربة بيت متفرغة لأبنائها ولا تخرج للعمل وتتركهم مع الشغالة. لكن في الحقيقة كانت أمها تتصرف مثل سجانة. وبالمقابل كانت الابنة مستعدة للقيام بكل ما يخطر على البال في سبيل إنقاذ والدتها من تلك الحالة. كانت امرأة كارهة للحياة.
هل يجوز للكاتبة أو الكاتب أن ينشر سيرة يفضح فيها أباه أو أمه أو أحد أفراد عائلته؟
في مقابلة معها قالت ماري إستيل دوبون إن البيوت أسرار. وهناك جرائم ترتكب وراء الأبواب المغلقة. لكن البشر طبائع وأنواع. ومنهم من يفضل أن يأخذ سره معه إلى القبر، بينما يلجأ آخرون إلى الفضفضة والكتابة كنوع من أنواع التخفف من حمل الماضي. ثم إن مؤلفة هذا الكتاب تشتغل بالعلاج النفسي، ولعل نصها هذا يساعد أشخاصاً آخرين كثيرين على مواجهة واقع شبيه بالواقع الذي نشأت فيه.
ليس هناك ما هو أدفأ من الإحساس بالأمومة. لكن والدة المؤلفة كانت على الضد من أمومتها. فقد نسجت حول ابنتها شرنقة تشبه خيوط العنكبوت لكي تعزلها عن العالم وتحطم شخصيتها. لماذا؟ بسبب الغيرة وخشية أن تغطي عليها بجمالها ولطفها. وقد كان الحل في الابتعاد عن المنزل العائلي ودخول الجامعة لدراسة علم النفس. لقد هربت من واقع مريض لكي تنجو بنفسها.
كيف تلخص الكاتبة تلك التجربة؟ تقول: «يضحك أخيراً من يهرب بعيداً».