يتابعون قلق الآباء أمام نشرات الأخبار والصور المخيفة.. كيف نفسر لأطفالنا حرب غزة؟
الحرب لا تتسبب في أضرار للأطفال الموجودين في مناطق النزاع. إنها تصيب نفسياً أولئك الذين يسكنون خارج مناطق الخطر. وليس صحيحاً أن الصغار لا يفهمون ما يجري. إن الطفل يعي ويشعر ويتأثر، خصوصاً وهو يلاحظ التوتر على وجوه أفراد أسرته ويسمع النقاشات والتعليقات الدائرة بين الأبوين، أو مع الجد، أو الأعمام والجيران. كيف نشرح لأطفالنا ما يجري في غزة؟ بعض الجواب لدينا، وبعضه لدى الخبيرة الفرنسية هيلين رومانو.
كتاب «الأطفال والحروب»
هيلين رومانو، عالمة فرنسية متخصصة في علاج الصدمات التي يتعرض لها ضحايا الحروب أو العمليات الإرهابية، حاصلة على الدكتوراه في علم الأمراض النفسية والقانون الخاص والعلوم الجنائية. إن عملها يتركز في علاج الأطفال والمراهقين، وهي صاحبة كتاب مهم صدر هذا العام بعنوان «الأطفال والحرب». فهل صحيح أن صغارنا لا يفهمون ما يجري في عالمنا من توترات؟ وهل من المفيد أن نشرح لهم أسبابها؟
الطفل.. يرى ويسمع ويتأثر
ترى هيلين رومانو أن الأولاد لا يفهمون قضايا الحرب ولكنهم يتأثرون بنسبة مئة في المئة بالتغيرات في سلوك آبائهم من حولهم أو البالغين من أفراد الأسرة بسبب الحدث غير الطبيعي الجاري في مكان ما. إن الطفل يتحسس قلق أمه وأبيه، وهذا يسبب له تراجعاً في شعوره بالأمان المفتقد لدى الزوجين. يحدث هذا بنسبة أكبر للأطفال الصغار، أي الرضع ولغاية سن الثالثة. فهؤلاء لا يجيدون الكلام ولا يملكون اللغة. كما أنهم لا يفهمون معنى الخسارة والموت. لذلك لابد من أن ينتبه الوالدان للطفل لكي يحجبوا عنه الصور الفظيعة التي يتم بثها على شاشة التلفزيون. ولا يكفي أن نضع الطفل في عربة ظهرها للشاشة، فهو يسمع الأصوات ويطالع وجوه الكبار. ويزداد الخطر عندما نترك الطفل يلعب في غرفة المعيشة ونتصور أنه لا ينتبه لما تبثه الشاشة.
مع نمو الطفل، تصبح مشاعره متوازنة مع فهمه الخاص. وبالتالي فإن الفئة العمرية من 5 إلى 8 سنوات هي الفئة الأكثر حفظاً، فهم لديهم القدرة على التعبير عن أنفسهم وفهم ما يرونه ويسمعونه، لكنهم لا يملكون فهماً حقيقياً لمعنى الحرب. أما بالنسبة للمراهق فإن تأثير الحرب عليه عنيف للغاية، إنه يتوقع الكثير من المستقبل، لكن المجتمع الحالي لا يوفر له سوى القليل من الآفاق المشرقة. فهو يسمع عن التغير المناخي ويتابع أخبار النزاعات في أوكرانيا والسودان وفلسطين ويشعر بمخاوف كبيرة. يتحمس ويحاول أن يكون له رأي أو موقف مما يجري، لكن معلوماته غالباً محدودة أو غير صحيحة. ولا ننسى مخاطر السيل الهائل من الصور والمنشورات التي يراها في مواقع التواصل.
صدى الصدمة داخل الأسرة
هل يختلف تأثير الحرب الدائرة في غزة عن غيرها من الحروب التي شهدناها في السنوات الأخيرة؟ وبمعنى آخر هل ينتقل القلق من الأبوين إلى الطفل؟ إن الأمر يتعلق بدرجة اهتمام الوالدين. إن الطفل يميز بين حدث يستولي على مشاعر والديه وبين حدث يتابعانه بدون كثير انفعال. وإذا استعرنا لغة الدكتورة هيلين رومانو كما جاء في كتابها عن «الأطفال والحرب»، فإن الحدث الصادم ليس هو ما يؤثر في القاصرين بل صدى ذلك الحدث داخل الأسرة الصغيرة أو العائلة الكبيرة.
أهم ما يجب على الوالدين القيام به هو تجنيب أولادهما مشاهدة الصور القاسية التي يبثها التلفزيون للقتلى والجرحى والقصف والمباني المهدمة. وهنا تتضارب الآراء.. فقد قالت لي سيدة فلسطينية تعيش في مخيم للاجئين في الأردن إن كل أطفال المخيم وشبانه الصغار يجلسون أمام الشاشة بالساعات، وهم يتأثرون بما يصيب شعب غزة وبينهم كثيرون من يرغبون بالتطوع للقتال عندما يكبرون. ولعل هذا هو أخطر ما يمكن أن تسببه الحروب في تأثيرها في الأجيال الطالعة. إنها تخلق مقاتلين محتملين تملأ صدورهم الرغبة بالثأر، وهذا يعني أننا نقضي على أي فرص لعالم يتبنى مفهوم السلام ويعالج الخلافات سلمياً وبدون تهور.
الأسلحة البلاستيكية وأبعادها النفسية والسلوكية
في بلادنا وغيرها من بلاد العالم، نجد في متاجر بيع لعب الأطفال الكثير من المسدسات والرشاشات والبنادق ومجسمات الطائرات الحربية والسيوف وغيرها من أسلحة بلاستيكية هي تقليد لأدوات القتل الحقيقية. ولنعترف أن كثيرين بيننا لا يكترثون للنزعة التي تخلفها هذه الألعاب على نمو الطفل نفسياً. ماذا يضر إذا أراد ابني اقتناء رشاشة وهمية؟ إنها مجرد دمية يتسلى بها بين رفاقه. نسمع مثل هذا الكلام وما هو أكثر منه. أي أن يقول الأب بأن هذا النوع من الألعاب يخلق من الولد رجلاً شجاعاً وقادراً على الدفاع عن نفسه.
في مقابل هؤلاء، نرى جيلاً جديداً من الآباء الذين يمتنعون عن شراء الألعاب القتالية. وإذا أصر الطفل وتعلق بلعبة منها وهو داخل المتجر فإن الأب، أو الأم، لا يتزعزع عن موقفه ولا يرق قلبه لتوسلات ولده، وهو يجد الوقت ليشرح له، بلغة بسيطة، أن من الأمور المكروهة أن نؤذي الآخرين. أما إذا أردت ابنك، أو ابنتك، قوياً وقادراً على الدفاع عن نفسه فمن الأفضل تسجيله في ناد للجودو. وهي رياضة يتعلم منها النظام واحترام الخصم بالإضافة إلى الحركات الدفاعية.
كثير من الأولاد، بحدود سن الثامنة، يبدؤون بطرح الأسئلة حول أسباب النزاعات الجارية في العالم. إنهم يسمعون مختلف الأحاديث من رفاقهم في المدرسة، وقد يطرحون أسئلة على معلميهم ومعلماتهم. وهنا ينقسم المربون إلى نوعين، نوع يمتنع عن التطرق للموضوعات السياسية داخل الصف، ونوع يجد أن من واجبه أن يشرح للتلاميذ ما يجري في أنحاء أخرى من العالم، وهو شرح يتلون بالتوجه الفكري والسياسي للمعلم أو المعلمة.
وأسوأ أنواع الشرح هو ذاك الذي ينطلق من نظرة عنصرية أو طائفية. وفيما يخص الصراع العربي الصهيوني، فمن المفيد أن يفهم الصغار أن العرب والمسلمين ليسوا ضد اليهود، كدين، بل ضد من يحتل أرض فلسطين ولا يلتزم بالقانون الدولي. وبعد سن الثانية عشرة يمكن للوالدين أن يتوسعوا في الشرح، أي أن يلخصوا للأبناء شيئاً من وقائع التاريخ القريب، أو أن يشتروا لهم كتباً ميسرة مخصصة لليافعين، تشرح معنى الوطن والأرض وصفات المواطن الصالح.
كيف تشرح لطفلك ما يجري في العالم؟
ونعود إلى المشاهد التلفزيونية الواردة من غزة، فإن من عواقب ترك الأطفال يتابعون كل ما تعرضه الشاشة الصغيرة، هو اضطراب السلوك الذي يتمثل في قلة النوم، أو أن يكون الصغار غير مطيعين وقد يجدون صعوبة في ترك الكبار والذهاب للنوم بمفردهم. أما المراهق فإنه يصبح أكثر عدوانية تجاه نفسه والآخرين. ثم، في جميع الأعمار، هناك ما نسميه «الألعاب المؤلمة»، إن الطفل يميل إلى تكرار ما يراه، ففي الأجيال السابقة كان الولد يلعب مع رفاقه لعبة الرجل الأبيض «الكاوبوي» الذي ينتصر على الهندي الأحمر. أما في هذا الجيل فهناك لعبة الخاطف والرهينة، وهي كفيلة بتشويه نفسية الطفل وتنمية الروح العدوانية لديه وإفساد علاقته مع الآخرين من أقرانه.
حين يرى الطفل أو يفهم أن الحروب تتسبب في قتل الناس، فإن من المفيد أن يشرح له الأبوان أن في العالم أموراً مؤسفة، وهناك بعض الناس السيئين، لكن الأطباء يعتنون بالضحايا ويداوونهم. فمن الضروري شرح الرعب بطريقة إنسانية وكذلك ترك الطفل يتحدث ويعبر عن نفسه وعما يدور في رأسه من أفكار. ما فائدة أن تتحدث وتشرح بدون أن تصغي لمخاوف ابنك؟ إن سماع الطفل يساعد الوالدين في فهم معاناته المحتملة وهو يجد نفسه في مواجهة أشياء لا معنى لها بالنسبة له. وهو لابد وأن يشعر بالخوف، وهنا على الكبار أن يظهروا للطفل أنهم موجودون من أجله ومن أجل حمايته. ومع الأطفال الأكبر سناً، فإن بعض الكتب والمجلات قد تساعد في تنوير الولد بما يحدث وبقسوة الحروب وتساقط الضحايا من الجانبين.
إن شرح الحرب فرصة للتطرق إلى موضوعات أخرى، مثل قيمة الحياة وضرورة المحافظة عليها كنعمة من عند الخالق. وكذلك احترام الآخرين حتى في حالة الخلاف. وأن هناك في العالم عقائد مختلفة عن عقيدتنا، لكن هذا لا يعني أن نتقاتل ونصبح أعداء طالما أن الطرف الآخر لم يعتد علينا أو يهاجمنا. يجب أن يعلم الأب والأم أن لدى الطفل رؤية ثنائية للغاية، الخير والشر، وأن والديه هما من ينقلان المرونة إليه. يمكننا أن نشرح للأطفال والمراهقين أنه لا يوجد أشرار من جهة وأخيار من جهة أخرى، بل هناك فقط أشخاص لديهم قناعات وغيرهم لديهم قناعات مختلفة. وبالتالي التأكيد على أهمية أن نكون في عالم مشترك يسوده الانسجام ويتحقق فيه الخير الذي يعم البشرية كلها.
وكخطوات عملية، يمكن تشجيع الصغار على التبرع للجمعيات الخيرية، حتى لو كان مصرفهم اليومي قليلاً، أو أن يمنحوا الثياب والألعاب لتلك الجمعيات التي ترسلها للأطفال المتضررين من الحروب أو الزلازل أو الفيضانات. ومن المؤكد أن حس المشاركة يخفف من مخاوف الأولاد والبنات، ويعلمهم بأن هناك جانباً طيباً في كل تجربة سيئة. ومن كان في سن تسمح بالفهم سيعرف أن هناك أطفالاً في غزة يمرون بفترة سيئة وهم بدون ماء ولا طعام، لكن هناك أناساً طيبين يحاولون حل النزاع وإحلال السلام في المنطقة.