ما بين السخرية والضرب والتهديد، لم يعد التنمر المدرسي قضية عابرة يمكن تجاهلها، بل بات حقيقة ملحة تهدد سلامة الطلاب النفسية وتعصف بعلاقاتهم الاجتماعية، تترك ندوباً تشعرهم بالقهر والانكسار.
بين المتنمر والضحية تتجلى سلسلة من التأثيرات النفسية والاجتماعية والأكاديمية التي تعصف بالطلاب وتلقي بظلالها على حياتهم ومستقبلهم، من هنا تظهر الحاجة الملحة للتعاون بين المنزل والمدرسة لمواجهة هذه الظاهرة والحد من آثارها السلبية.
نشأة الطفل في بيئة هشة تفقده الثقة بنفسه
تبين الباحثة الاجتماعية والمستشارة الأسرية عائشة الحويدي، خطورة التنمر كأحد الظواهر التي تنشط في المدارس على الأطفال: «يُعد التنمر من الظواهر الاجتماعية المقلقة التي تؤثر على الأطفال سواء كانوا متنمِرين أو ضحايا للتنمر، وإذا ما بحثنا في أساس المشكلة سنجد أن السبب الرئيسي يكمن في التنشئة الاجتماعية..
حيث تلعب الأسرة والبيئة دوراً حاسماً في تكوين شخصية الطفل، سواء بشكل إيجابي أو سلبي، إلى جانب الأقارب والأصدقاء الذين يشكلون جزءاً من هذه المنظومة الاجتماعية المحيطة بالطفل»..
تضيف «وجود الطفل في بيئة تفتقر للتوجيه السليم وتشجع على السلوك العدواني تساعد على تبني سلوكيات سلبية مثل التنمر، بينما يصبح الطفل ضحية للتنمر عندما ينشأ في بيئة ضعيفة هشه تفقده ثقته بنفسه».
تلفت الحويدي إلى أن «التنمر، في جوهره، انعكاس لنقص يعاني منه الشخص المتنمِر، نتيجة تعرضه للعنف أو الإهانة من قبل والديه أو أشخاص آخرين في بيئته المحيطة، فعندما يرى الطفل والده يضرب أو يهين والدته، يتملكه إحساس العجز، وبالتالي يصبح غير قادر على الدفاع عن نفسه تجاه زملائه الذين يتنمرون عليه.
هذه الديناميكيات لا تقتصر على جيل واحد، بل تنتقل من جيل إلى جيل، فوجود الأطفال في مثل هذه البيئات ينتج عنه حلقة مفرغة من السلوكيات السلبية التي تتكرر عبر الأجيال، كما يساهم غياب النماذج الإيجابية في حياة الطفل على تبني سلوكيات غير صحيحة، مثل التنمر كوسيلة للتعامل مع ضغوطات الحياة».
تتوقف الحويدي، عند الآثار الاجتماعية للتنمر وتأثيرها على العلاقات «يتولد لدى الأطفال الذين يمرون بتجربة التنمر شعور بالكسر والإحساس بالعجز والرغبة في الانطواء، هذا الانعزال الاجتماعي يولد كراهية تجاه الآخر، وعدم القدرة على الدفاع عن النفس، ما يدفعه نحو الانغلاق ويحد من قدراته على تطوير مهاراته واكتساب الخبرات الاجتماعية».
كما تلفت الحويدي لأبعاد التنمر على الأسرة «لا تتوقف خطورة التنمر على الطالب أو الطفل نفسه، بل يمتد ليشمل الأسرة بأكملها، فعندما يصبح الطفل ضحية للتنمر في المدرسة، تجد الأسرة نفسها في دوامة من المشاكل، حيث يشعر الوالدان بالعجز والقلق الذي يمتد ليؤثر على علاقة الأسرة بالمجتمع والمدرسة».
%50 من الأطفال في العالم تعرضوا للتنمر المدرسي
من جانبها، توضح د. كريمة المزروعي، مستشار مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، أسباباً أخرى تدفع الأطفال للتنمر في المدرسة، مثل: «رغبة بعض الأطفال في الهيمنة والظهور يدفعهم للميل إلى التنمر على زملائهم الأضعف لإثبات تفوقهم..
فالأطفال الذين يشعرون بتقدير زائد للذات بسبب انتمائهم العرقي والاجتماعي يستخدمون التنمر كوسيلة لإبراز هذا التفوق، في ما تلعب وسائل الإعلام دوراً كبيراً في تشجيع الأطفال على تبني سلوكيات عنيفة من خلال تصوير العنف بشكل متكرر كوسيلة لحل المشاكل وتحقيق النجاح»..
تضيف: «أما الفئة الأكثر تأثراً بالتنمر فهم عادةً ما يكونون من الأطفال الذين يظهرون هشاشة أو ضعفاً جسمانياً أو نفسياً، على سبيل المثال، الأطفال الذين يختلفون عن أقرانهم بالمظهر أو القدرات ممن يعانون إعاقة جسدية أو اضطرابات في التعلم، أو الذين يفتقرون إلى الدعم الاجتماعي سواء من زملائهم أو أسرهم، يجدون أنفسهم بدون حماية في بيئة المدرسة».
آثار التنمر على نفسية وسلوك الطفل
تكشف د. المزروعي، الآثار والمشكلات النفسية والسلوكية للتنمر «يعاني الأطفال الذين يتعرضون للتنمر من:
- القلق والاكتئاب.
- ضعف في التقدير لذواتهم والشعور بالدونية، الذي يؤدي في النهاية إلى الشعور بالوحدة والانعزال الاجتماعي.
- اضطرابات في النوم كالأرق والكوابيس التي تؤثر على تركيزهم وأدائهم الأكاديمي.
- الخوف من الذهاب للمدرسة الذي يؤدي إلى تأخرهم دراسياً وتحول البعض منهم من ضحايا إلى متنمرين كوسيلة للدفاع عن أنفسهم.
- اضطرابات نفسية أخرى مثل الوسواس القهري أو اضطرابات انشقاقية تستمر حتى مرحلة البلوغ.
- يمكن أن ينتهج بعض المتنمرين أو الضحايا سلوكيات إجرامية في المستقبل إذا لم يتم التدخل في الوقت المناسب، كتعاطي المخدرات بحسب ما تشير له بعض الإحصائيات».
كما تلفت لأبعاد أخرى أكثر خطورة للتنمر «يجب الانتباه أن التنمر ظاهرة عالمية يمكن أن تؤدي لليأس أو الانتحار خصوصاً لضحايا التنمر الإلكتروني، وتشير التقارير العالمية الحديثة إلى أن التنمر يؤثر على ملايين الطلاب حول العالم..
حيث تقدر اليونيسيف أن حوالي 50% من الأطفال في سن المدرسة قد تعرضوا للتنمر، مع تفاوت النسبة بين الدول والمناطق».
دور الأسرة والمدرسة في محاربة التنمر
من جانبه، يرصد مدرب التنمية البشرية والعلاقات الأسرية الدكتور شافع محمد النيادي، خطورة ظاهرة التنمر في المدارس وآثارها على وجود بيئة تعليمية صحية وآمنة، ويقول «لا يمكن الجمع بين الخوف والهلع وبين اكتساب العلم والمعرفة، التنمر آفة تدمر مستقبل أبنائنا الذين نعمل جاهدين على تعليمهم وتربيتهم للنهوض بالوطن..
لذلك نحن بحاجة لاتخاذ إجراءات جادة وحاسمة للحد من هذا السلوك من خلال تقديم برامج تعليمية لتوضيح ما هو التنمر وما هي آثاره، بل ووضع قوانين صارمة لمكافحته، وتقديم الدعم النفسي للضحايا ومساعدتهم على التعافي، وخلق بيئة مدرسية إيجابية يسودها الحب والاحترام والتعاون والتقدير».
يتوقف د. النيادي، ليوضح أشكال التنمر الذي يبدأ بفعل بسيط ويتطور ليشمل أنواعاً متعددة من الاعتداءات النفسية والجسدية مع التركيز على مسألة تعمّد الفعل وتكراره:
- التنمر الجسدي: متمثلاً بالضرب والركل، والاعتداء الجسدي، هذا النوع من التنمر يترك آثاراً جسدية ونفسية كبيرة على الضحية.
- التنمر اللفظي: يتضمن الاستهزاء بالشخص، والسخرية، والإهانة، وإطلاق ألفاظ مسيئة يمكن أن تحطم من ثقة الطفل بنفسه وتعزز من شعوره بالدونية.
- التنمر الاجتماعي: يتمثل في نشر الشائعات لإحراج الضحية أو جعله منبوذاً، وهذا النوع من التنمر يعمل على إضعاف الروابط الاجتماعية للضحية وجعلها تشعر بالعزلة.
- التنمر الإلكتروني: وهو أحدث أشكال التنمر التي تعتمد على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر رسائل مهينة ومسيئة، أو صور وفيديوهات تحرج الضحية، وبسبب سرعة انتشار المحتوى يكون هذا النوع من التنمر الأكثر تأثيراً وصعوبة في السيطرة عليه.
عندما يتعلق الأمر بمواجهة التنمر، كثيراً ما نسمع الاحتجاجات التي تلقي باللوم على المدرسة فقط ! لكن ماذا عن دور الأسرة والوالدين؟
يلخص د. النيادي «دور الأسرة بـ:
- تثقيف الأسرة: من المهم أن تعي الأسرة بخطورة التنمر وآثاره السلبية على المتنمر والضحية، وذلك من خلال حضور الندوات والمحاضرات التوعوية والورش التي تساعد على التعرف على أشكال التنمر وعلاماته واتخاذ الإجراءات اللازمة.
- بناء الثقة في نفس الطفل: يتحمل الوالدان مسؤولية بناء الثقة في أبنائهم، فلا ينبغي أن يعتاد الطفل أن يكون ضحية بسبب أسلوب الأهل العنيف والمهين، أو بسبب الإهمال، الأطفال الذين ينشؤوا في بيئة عنيفة أو غير داعمة هم الفئة الأكثر عرضةً للتنمر أو يكونون أشخاصاً متنمرين، لذلك يجب أن يكون الوالدان نموذجاً إيجابياً لأبنائهم، فمن خلال مراقبة سلوك الأهل يكتسب الأطفال الكثير من السلوكيات التي تنعكس في ما بعد على تعاملهم مع الآخرين.
- تخصيص وقت نوعي للأبناء: التواصل بين الأبناء وأولياء الأمور يجب أن يكون مستمراً ومتجدداً، لا ينحصر في الوقت الذي يواجه فيه الطفل مشاكل أو يتعرض للتنمر، من المهم أن يكون هناك حوار مفتوح ودائم بين الأطفال وأولياء الأمور، حيث يمكن للطفل مشاركة تجاربه اليومية، وإنجازاته، وأي تحديات يواجهها مع أسرته، لتعزيز الشعور بالأمان والدعم المستمر.
- بناء بيئة أسرية داعمة: من المهم أن يكون المنزل مكاناً يشعر فيه الطفل بالثقة بالنفس والقدرة على التحدث بحرية، وللوالدين دور كبير في تعزيز هذه الأحاسيس من خلال منح الطفل الفرصة للتعبير عن مشاعره ومشكلاته والابتعاد عن ترهيبه أو توجيه الانتقاد الدائم له.
توصيات للمدرسة من أجل بيئة خالية من التنمر
لخلق بيئة مدرسية آمنة وداعمة تساهم في الحد من التنمر وتعزيز السلوكيات الإيجابية بين الطلاب..
يضع د. النيادي جملة من التوصيات لإدارات المدارس لمكافحة التنمر:
- الحزم وعدم التسامح والجدية في التعامل مع جميع أشكال التنمر، سواء كان جسدياً، لفظياً، اجتماعياً، أو إلكترونياً،.
- وضع سياسة واضحة ومعروفة للطلبة وأولياء الأمور والمدرسين، تؤكد رفض هذا السلوك وتوضح النتائج المترتبة عليه.
- توفير قنوات آمنة وسرية للطلاب للإبلاغ عن حالات التنمر.
- الاستجابة والتدخل الفوري مع حوادث التنمر، وتدريب الاختصاصيين الاجتماعيين والمعلمين للتعامل مع هذه القضايا بشكل سريع وفعال.
- دعم ضحايا التنمر، من خلال تقديم الدعم النفسي والاجتماعي، وتوفير استشارات للطلاب وأولياء الأمور المتضررين لمساعدتهم على تجاوز المحنة.