ينفجر طفلكم غاضباً في أحد المتاجر... يرفض بإصرار ارتداء ملابسه... هل هو يختبركم؟ كلا! هو دماغه الذي يكبر ويتغير ويتحكم به.
يقول المؤلفان «د. دانييل سيغل ود. تينا باين بريسون» في كتابهما «ماذا يجري في دماغ طفلكم؟» أن التربية ليست صراعاً على السلطة، بل مرافقة ودودة ومحبة ذكية. وقد جاءت آخر الاكتشافات حول أدمغة الأطفال منذ ولادتهم وحتى سن الثانية عشرة لتلقي ضوءاً جديداً على سلوكهم.
منذ الاكتشاف الثوري الخاص بمرونة الدماغ، انفتح أمام العلماء حقل بحثي هائل. من قبل، كان يُظن أن الدماغ ينمو خلال الطفولة بتأثير العوامل الوراثية ومتى كبر بقي على حاله من دون تغيير. وكان يُقال لنا في المدارس إن العصبونات لا تتجدد. بيد أن تطور تقانات التصوير الدماغي قد سمحت بحدوث اكتشافات عظيمة قضت على الكثير من الأفكار القديمة.
نعلم اليوم أن كل تجربة جديدة تؤدي إلى قيام ارتباطات بين العصبونات فتولد شبكات جديدة منها وتتفكك أخرى وتعيد تنظيمها بطريقة مختلفة. هذا ما يسمّى 'مرونة' الدماغ. في الماضي، كان علماء النفس يطلقون على الدماغ اسم 'الصندوق الأسود'، أما اليوم فنحن نكتشف عالماً شديد الترابط وفي حركة دائمة، يحمل كل يوم فيه حصته من الاكتشافات الجديدة.
دور الأهل في نمو دماغ الطفل
يمتلك الرضيع قرابة مئة مليار عصبون، لكنها قليلة التواصل في ما بينها. حين تلعب الأم وطفلها أو تعاقبه، أو عند وجود أي تجربة حياتية، يقوم نشاط مذهل في دماغ الطفل؛ إذ تنشط آلاف العصبونات وتنشأ الروابط بينها فيما تتوطد أخرى، وهكذا نقيس الدور الهائل الذي يلعبه الأهل في نمو أدمغة أطفالهم.
الدماغ يتعلم ويحفظ ويمكّننا من التفكير والانفعال والعمل. تعيد هندسة الدماغ تنظيم ذاتها باستمرار من أجل أن تتأقلم مع محيطها. وما هو محيط الطفل؟ إنه مؤلف من بشر آخرين وأولهم الوالدان. البارحة فقط كنا نترجم سلوكيات الطفل بقولنا: 'يريد التحكم بي' أو 'هو يسعى إلى معرفة حدوده' أو 'هو يريد إثارة غضبي'... أما اليوم، فإن العلوم العصبية تقدم لنا طرائق تفسير أكثر تطابقاً مع الواقع من أجل فهم سلوكيات أطفالنا.
الدماغ كلٌّ متكامل، وإذا كانت مختلف مناطقه، اليمنى واليسرى والعليا والسفلى، تقوم بوظائف محددة، فإن حسن الارتباط والتواصل بينها يسمح بقيامها بوظائفها على أكمل وجه. وحين لا يكون هذا الاندماج صحيحاً، قد يشهد الأولاد أو حتى الأهل حالة غرق في الانفعالات وعجز عن التصرف بالطريقة المناسبة.
نصف الدماغ الأيمن يعالج المعلومات الجسدية وغير الكلامية والأحاسيس والانفعالات والصور. ونصف الدماغ الأيسر يعالج اللغة والمنطق التحليلي ويفسر المعلومات بطريقة حرفية. المسألة أعقد من هذا بالطبع، وهذا ليس سوى مخطط مفيد لفهم نوبة الغضب مثلاً. فإذا كان ثمة عاصفة انفعالية في الدماغ الأيمن، فلا فائدة من محاولة جعل الطفل يصغي إلى العقل. ودور الأهل هنا في تلك اللحظة ليس أن يعلّموا الطفل أي شيء، بل أن يساعدوه أولاً على تهدئة دماغه وجعله أكثر تقبُّلاً لما سيقال له بعدها. كيف؟
التواصل بحنان مع مشاعر الطفل وانفعالاته العنيفة
ويتم هذا عبر السلوك غير الكلامي، كالنظرة الرقيقة وحركات الضم إلى الصدر التي تكون أكثر فاعلية من الكلمات. فالحب ليس مكافأة، إنه وقود الحياة. قد يبدو الأمر متنافراً تماماً مع ردة الفعل المعهودة، فكيف بالأهل أن يضمّوا ولدهم فيما هو 'يتصرّف بشكل سيئ'؟ إن الشواهد العلمية تثبت أن الأهل لا يستطيعون أن يتحدثوا إلى دماغ الطفل الأيسر، أي إلى العقل، قبل أن تهدأ عواطفه وانفعالاته. بعض الأهل يدركون بالفطرة أهمية استيعاب انفعالات الطفل وتسميتها، وقد بيّنت الأبحاث أن مجرد إعطاء اسم للمشاعر التي تجتاحنا يخفف من نشاط الدوائر الانفعالية في الدماغ الأيمن.
بعد العمل على تواصل نصفي الدماغ، الأيمن والأيسر، ينبغي العمل على تواصل الدماغ العلوي مع الدماغ السفلي. الدماغ العلوي أي القشرة الدماغية الحديثة، يفكر ويقرر؛ والدماغ السفلي أي الجهاز الحوفي، يصدر ردات فعل انفعالية. تخيَّلوا درجاً ينطلق من اللوزة في الأسفل وهي التي تطلق ردة فعل التشنج، وصولاً إلى القشرة الحديثة التي تفكر. تخيلوا هذا الدرج وقد رميت فوقه ألعاب وكتب وأحذية... تمثل التجارب عير المندمجة وغير الموضبة التي حصلت في الماضي. هذه الصورة ستمكننا من فهم الصعوبة التي يلاقيها الطفل في بلوغ دماغه العلوي.
الأوامر تحفِّز ردة الفعل الدفاعية
يبين لنا التصوير الدماغي أن توجيه أمر إلى الطفل يحفز اللوزة في أسفل الدماغ، ما يطلق حالة دفاعية تجعل الطفل يدخل في حالة حرب ويستعد للقتال أو للهرب أو للجمود. ردة الفعل إزاء الضغط هي ذاتها ردة فعل أسلافنا من البشر إزاء المخاطر التي كانت تحيق بهم. فلمَ نحرك دماغه السفلي مع خطر إثارة حالة من الثورة أو الغضب، في حين أن باستطاعتنا أن نحفز قشرته الدماغية الحديثة ما يزيد من مقدرته على القرار والخيار وتوقُّع النتائج وكل المهام التي يقوم بها الدماغ العلوي؟ لماذا لا نشجع نمو دماغ الطفل بتسليمه مهمة اتخاذ قرارات بدلاً من أن نعطيه أوامر، سواء تعلق الأمر بانتعال حذائه أو الاستحمام أو التوقف عن لعبة الفيديو؟ ألا نريد جميعنا أطفالاً مسؤولين بدلاً من أن يكونوا مجرد أطفال مطيعين؟
في الحركة نمو
الركض لا يعني إنفاق طاقة أو تحرير المكبوت وحسب، الركض يبني الدماغ والقدرات الذهنية العليا. حين تهدد الفوضى الانفعالية بالاستيلاء على السلطة، يمكن للجسم أن يتسلم زمام الأمور. فبضع دقائق من التمارين البدنية تهدئ من روع اللوزة الدماغية، وتمكّن الطفل من استعادة السيطرة على دماغه العلوي. نادراً ما يركض أطفال اليوم بالقدر الكافي. بعض القفز بالحبل أو الركض حول المنزل سيكونان أكثر فاعلية للتمكن من حل مسألة رياضية؛ للتخفيف من التوتر بين طفلين يتنازعان. دعونا لا ننسى أن الانفعالات تبدأ أولاً في الجسم، والحركة تجعلها تتحرك.
أطفالنا حلفاؤنا في تربيتهم
يمكن أن نشرح للأطفال طريقة عمل دماغهم، فهذا ما سيكسبهم مزيداً من الوعي والسيطرة. فذكرياتنا، الواعية أو اللاواعية، والترابطات الذهنية المرتسمة في شبكات العصبونات تقود سلوكياتنا. ويمكن أن نعلم طفلنا كيف يتحدث مع دماغه حينما ينشِّط هذا الأخير تجارب قديمة تلجمه. فتتم استعادة التجربة المؤلمة التي انقضت على خير بما أن الطفل لا يزال قادراً على التحدث عنها، وهذا مع الأب أو الأم وبشكل تدريجي. ففي بداية الحديث يتم القفز على التفاصيل المؤلمة للتركيز على النهاية السعيدة، ثم يعاد تكرار الحديث لإضافة، شيئاً فشيئاً، المزيد من التفاصيل المؤلمة مع التركيز دائماً على النهاية السعيدة، وصولاً أخيراً إلى استعادة القصة بأكملها، وزوال صدمة الطفل منها؛ لأن دماغه الحديث تمكن من عقلنتها.
حتى نغذي الذكاء العاطفي لدى الطفل، يمكن أن نقدم له معلومات، على نسق أن الانفعال يدوم ما معدله تسعين ثانية، وأدوات عملية من أجل ضبط الانفعالات، كالحركة الجسدية والنفس العميق.
«أشعر بالحزن» وليس «أنا حزين»
ثمة مفهوم رئيسي يتصل بالقدرة على إدراك ما يجري في المساحة الذهنية لدينا، وكيف تنتظم أفكارنا ومشاعرنا وتروح وتجيء لدينا ولدى سوانا من الناس. والصورة التي يمكن أن تعبر عن هذه الفكرة هي صورة عجلة ومحور تنطلق منه القضبان التي تحمل الدائرة الخارجية. كثيراً ما نكون غير مدركين لما يجري على السطح الخارجي، ولأننا لا نرى كامل الصورة، نشعر بأننا واقعين بين براثن همٍّ معين أو سلوك ما.
الوقوف في وسط العجلة يمكننا من التمتع بإدراك أوسع لمجمل تجربتنا في لحظة معينة. وبفضل هذا الموقع الذهني، يمكننا أن نخرج من سلوكياتنا الآلية من أجل فهم ردود فعلنا وتسمية انفعالاتنا والتعرف إليها وجعلها في موضع نسبي واتخاذ القرار في ما يخص سلوكنا مع الآخرين. هذا النوع من الإدراك يفتح أمامنا إمكانية أن نقول 'أشعر بالحزن' لا أن نقول 'أنا حزين'. قد تبدو الصيغتان متشابهتين للوهلة الأولى، غير أنهما مختلفتان تمام الاختلاف. فالثانية هي كتعريف للذات وقد تحبسنا في التجربة التي نعيشها؛ أما الأولى فهي تدل على أن الحزن انفعال وحسب وسيمر وينتهي كسائر الانفعالات. فنحن لسنا تجارب حياتنا، نحن نمر بتجارب في حياتنا. وبهذه الطريقة يكتشف الأطفال أن بإمكانهم أن يختاروا الشيء الذي يريدون التركيز عليه ليعدلوا كما يريدون بعدها حالتهم الانفعالية وأفكارهم.
ليس المطلوب من الأهل أن يكونوا مثاليين، فلا أحد يستطيع ذلك، لكن التربية الإيجابية تقضي بإعطاء الأطفال موارد شخصية تجعلهم يضعون بأنفسهم حدوداً لذواتهم لا أن نرسم لهم الحدود بدلاً منهم. فبدلاً من أن نأمر الطفل بأن يحافظ على الهدوء، يمكن أن نعلمه كيفية التنفس وتسمية المشاعر بأسمائها والبحث عن السكينة في أعماق قلبه والتقاط ما يمر به من أحاسيس ومشاعر في لحظتها حتى لا يغرق فيها.
اقرأ أيضاً: أسرار التربية الصحيحة.. كيف تنتقدين أولادك وتوجهينهم دون أن تفقدي محبتهم؟