كيف نبني أسرة؟ سؤال جوهري يطلّ على بدايات الاختيار ولا ينتهي عند حدود إنجاب الأبناء. فبناء أسرة مستقرة يتطلب تربية قائمة على الحب والاحترام والتواصل الفاعل والثقة المتبادلة، حيث أطراف المعادلة تشمل الزوجين والأبناء وتمرّ على المحيط الاجتماعي والمنظومة النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
وإن كان اختيار الشريك هو المرتكز لأسرة سعيدة ومستقرة، فإن متطلبات الأسرة تمر بمراحل بناء متعددة تبدأ بالتخطيط على جميع مستوياته والارتباط وإنجاب الأطفال، مع ما يصحب تلك المتطلبات من صبر وتحديات وتربية وغرس القيم والمبادئ، والأهم الحوار بين أفراد تلك الأسرة.
فما هي الأسس والمرتكزات التي يجب اتباعها لبناء أسرة مستقرة ومتوازنة نفسياً واجتماعياً؟
في منظومة بناء الأسرة، تتجلى خمس ركائز رئيسية يوضحها لنا الدكتور أحمد النجار، الأكاديمي والمستشار النفسي، وهي:
التواصل الفعال: هو حسن الاتصال والتواصل بين جميع أفراد الأسرة، وهذا النوع من التواصل يتميز بوجود فهم وتفهم بين الأطراف، حيث يكون تواصلاً من دون خوف، ويُعد أهم نقطة من المرتكزات الأساسية.
الاحترام والتقدير: يشمل احترام الأب لأبنائه، الأبناء لبعضهم بعضاً، الأب للأم، والأم للأب، ليكون الاحترام مثالاً يحتذى به في جميع جوانب العلاقة الأسرية، وقول الله سبحانه وتعالى: «وَهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد» يجسّد ثمار الكلام الطيب والنهج المستقيم كطريق للتماسك والازدهار الأسري.
الدعم العاطفي: أن يكون التواصل الفعال مبنياً على شعور الأفراد بأنهم ليسوا وحدهم. فالأسرة تدعم بعضها في الأوقات الصعبة وتحتفل معاً بالنجاحات.
وضوح الأدوار: يكون لكل فرد دوره الخاص وكل طرف يحترم دور الآخر ويتعامل معه بانسجام لتحقيق التكامل داخل الأسرة.
التوازن بين الاستقلالية (التحرر) والالتزام والتماسك: ركيزة تزاوج بين التحرر الفردي والالتزام الجماعي، وبين تحقيق استقلالية كل فرد مع الحفاظ على قيم الأسرة وتماسكها.
تطبيق هذه المرتكزات بشكل عملي يتطلب المواظبة على عادات يومية يزودنا بها د. النجار، وهي:
- تواصل يومي يعزز التعود.
- أنشطة مشتركة ترتبط بالتواصل ومبدأ التشاركية.
- التعبير عن المشاعر، مفتاح لتخفيف حدّة الصراعات الأسرية وفتح مساحة للحوار وغياب هذه العادة ينتج بيئة مشحونة قد تزداد فيها التوترات.
- التعامل مع الضغوط وتعبئة المهارات، يمثلان أساساً مهماً لبناء بيئة أسرية تنموية قائمة على التفاعل والتشارك ضمن مسار التنشئة الاجتماعية كعملية تكاملية توجه أفراد الأسرة نحو التفاعل الإيجابي، وتقوية الروابط، وتنمية المهارات التي تعينهم على تجاوز الأزمات.
كيف يمكن للأسرة أن تحوّل الضغوط إلى فرص للتعلم؟
يرسمها د. النجار الطريق عبر ثلاث نقاط محورية:
فن إدارة الخلاف والحوار الأسري: إدارة الحوار بشكل فعّال، خاصة أثناء النزاعات، تُعد مهارة حيوية، سواء من خلال تنظيم اجتماعات أسرية دورية يُناقش فيها الجميع مشكلاتهم بوضوح واحترام، أو عبر حوارات غير مباشرة. فالأسرة التي تُتقن فن إدارة الحوار تعّد أفرادها لمواجهة تحديات الحياة بثقة ووعي.
التفاهم والفهم: يؤدي التفاهم العميق بين أفراد الأسرة إلى خلق بيئة إيجابية تتيح للجميع التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بحرية، ما يقلل من حدة الخلافات، ويجعل التعامل مع الضغوط أكثر مرونة.
المرونة والتنازل: يجب أن يتعلم كل فرد داخل الأسرة أهمية التنازل والمرونة في التعامل مع الآخرين، لضمان توازن العلاقة وعدم تمسك أي طرف برأيه باعتباره الصواب المطلق. هذا النهج يحمي الأسرة من إنتاج أفراد يظنون أن وجهات نظرهم فقط هي الصحيحة، ما قد يؤدي إلى استبعادهم من محيطهم الاجتماعي.
يكتمل البناء الأسري مع التربية الإيجابية للأبناء وبناء أفراد أسوياء نفسياً واجتماعياً داخل الأسرة. يوجهنا المستشار النفسي الدكتور أحمد النجار إلى هذا السبيل عبر:
- التربية بالحب والاحترام: بتقديم الحب غير المشروط للأطفال وتعزيز شعورهم بالأمان.
- تنمية الثقة بالنفس: بالمدح والتأكيد والدعم ورفع مستوى الاعتماد على الذات.
- غرس القيم الأخلاقية والاجتماعية: بالتربية المثلى والقدوة الحسنة والارتباط بالعادات والتقاليد والأخلاق الكريمة.
- تشجيع الحوار المفتوح: تدريبهم على الحديث أمام الآخرين وشرح آرائهم ومقترحاتهم.
- تنظيم وقت الطفل: تعويده على تحمل مسؤولية وتنظيم الوقت وترتيب الأولويات.
- التعامل مع الأخطاء بتربية إيجابية: اعتماد أسلوب التوازن بين الثواب والعقاب والبعد عن الصراخ والعنف.
- تعليم الأبناء تحمل مسؤولية أفعالهم وتصحيحها.
إذاً، يتبدّى هدف تكوين أسرة مملوءاً بالتشعبات التي من الواجب الإحاطة بها وتدارك أي أخطاء قد تؤثر سلباً في مسار هذه الأسرة ومستقبلها. فهذه مسؤولية، ولذلك يتعين على الأسرة أن تكون نموذجاً يحتذى به، وتغرس في أبنائها القيم التي تسهم في بناء مجتمع متماسك وقوي.
استراتيجيات تأسيس أسرة
معرفة استراتيجيات تأسيس الأسرة أمر حيوي للغاية، وتدخل في إطارها بعض القواعد المهمة التي تسبق مرحلة الزواج وخلال الزواج وبعد اتخاذ الخطوة.
ثمة أمور قد نغفلها أو ننساها في خضمّ اتخاذ القرار والإقدام على خطوة الزواج، تتوقف عندها بشاير المنصوري، كاتبة إماراتية ومدربة أسلوب الحياة، ولها مؤلفات عن السعادة والعلاقات الزوجية، حيث تعتبر أن تكوين أسرة «امتداد للشخص وتشكيل لتغيير في العالم. فهي (أي الأسرة) ليست مجرد عدة أشخاص موجودين في بيئة واحدة، بل مفهومها أعمق بكثير، إنها مثل الأوركسترا تتناغم عندما يعمل الجميع على إيقاع واحد».
وتوضح المهمة الصعبة لبناء أسرة، قائلة: «إن تكوين الأسرة وإنجاب طفل يعني إحداث تغييرات جذرية في أسلوب حياتك وفي شؤونك المالية وما إلى ذلك؛ لذا فإن اتخاذ استراتيجية جيدة قبل البدء بتكوين الأسرة سيساعدك على تولي زمام الأمور والحصول على راحة البال».
وتزودنا بأبرز الاستراتيجيات التي تساعد على تحقيق الهدف:
ابدأ بصحتك وغير أسلوب حياتك:
لإحداث تغيير في عالمك يجب أن يبدأ التغيير فيك، لتكوين أسرة وللإنجاب تحديداً يجب أن تكون صحتك على هرم أولوياتك؛ لأن صحتك لن تسهم فحسب في إنجاب أطفال أصحاء، بل أثبتت دراسات أن ما تتناوله من طعام يسهم بشكل كبير في مزاجك وصحتك العقلية، وأن أسلوب الحياة غير الصحي وعدم ممارسة الأنشطة البدنية ستجعل منك شريك حياة بائساً وغير داعم لأفراد أسرتك. لذا؛ تذكر أن التغيير يبدأ بخطوة، مثل شرب كوب ماء فور الاستيقاظ أو التمدد لعدة دقائق فحسب، على الرغم من بساطة الأمر، فإن مستقبلك هو مجموعة الخطوات الصغيرة والعادات اليومية التي تتبعها اليوم.
التخطيط المالي:
تعتمد سعادة ورفاهية الأسرة بشكل كبير على التخطيط المالي الصحيح للوالدين، فلا شيء أجمل من قضاء رحلات عائلية والحصول على الأمان المالي الذي يمحو الخوف من المستقبل، لذلك عليك اتخاذ خطوات جدية اليوم، وتذكر أن التخطيط المالي الصحيح ليس فقط لحفلة الزفاف بل للحياة الأسرية لاحقاً، راجع مدخراتك واحتياجاتك: كم لديك في مبلغ الطوارئ؟ هل لديك تأمين صحي؟ هل وظيفتك الحالية ستساعدك على عيش أسلوب حياة صحي لك ولعائلتك لاحقاً؟ هل أنت بحاجة إلى دخل إضافي؟ هل أنت بحاجة إلى تغيير وظيفتك؟
علاقتك مع شريك حياتك
من المهم أن تكون وشريكك واضحين ومتوافقين بشأن كيفية بناء مستقبلكما معاً. لذا قبل البدء بتكوين الأسرة، يجب أن تكون قادراً على التحدث بصراحة مع شريكك حول العديد من الحقائق التي ستواجهها، وتشمل هذه: متى وأين تخططان للاستقرار؟ كيف ستستثمران في منزل يصلح لتكوين أسرة؟ متى تريدان البدء في إنجاب الأطفال؟ وحتى الأمور المالية، إضافة إلى احتياجاتكما ورغباتكما وأحلامكما المستقبلية، بغض النظر عن مدى حساسية هذه المواضيع.
ما قبل الإنجاب
ولادة الطفل هي أكثر من مجرد الاستعداد للولادة في المشفى، فيجب أن تكون مستعداً جسدياً ومالياً وعقلياً؛ لجعل تجربة الأبوة والأمومة أكثر راحة ومتعة، منها الحصول على وظيفة مناسبة لرعاية الطفل، والاهتمام بهم؛ إذ بعض الوظائف الصعبة بساعات العمل الطويلة قد لا تساعد الأمهات للاهتمام بأطفالهن بالصورة الصحية. ويجب على الأب كذلك دعم الأم ومساعدتها خلال هذا الوقت الذي قد يكون مربكاً ومرهقاً، كما يجب تغذية وتنمية الجوانب العاطفية في الأبناء ومنحهم الحب غير المشروط، وهذا لن يتحقق ما دامت حياتك تملؤها الضغوط.