
تشتكي بعض الأمهات من محدودية ذكاء طفلها، وهناك من تصِمُه ببعض الكلمات القاسية، التي تخفي ورائها حقيقة مغايرة تماماً للواقع، فربما هذا الطفل مختلف، ليس أكثر، وهو ما نحاول توضيحه من خلال استعراض تجربة شخصية لأم، قبل أن تكون مختصة، عاشتها مع ابنتها.
نلتقي الدكتور شهيرة سامي، استشاري نفسي وتربوي، لتعرض تجربتها مع طفلتها جوليا ابنة 3 سنوات، وتقول «الأطفال لا يشبهون بعضهم بعضاً، فكل واحد منهم يمتلك طريقة خاصة في الفهم، والإدراك، ما يستدعي تدخلاً تربوياً وتعليمياً يتناسب مع احتياجاتهم الفردية، فبعضهم يواجه صعوبات في التعلم، بينما يتمتع آخرون بقدرات استثنائية تحتاج إلى بيئة محفزة لتنميتها، وهذا الفرق لا يكمن في الذكاء، بل في طبيعة التعلّم، والتفاعل مع البيئة المحيطة، لذلك، لابد أن يُدرك الأبوان، أنهما حجر الأساس في بناء شخصية طفلهما، وتنمية قدراته».

لماذا طفلي مختلف؟
تجيب د. شهيرة «هذا هو السؤال الذي يجب أن يطرحه الأبوان، بدلاً من (لماذا طفلي غبي ولديه تحدّيات تعليمية وسلوكية؟)، فقد يكون لديه مهارات ضعيفة في مجال معيّن، لكنه موهوب، وبارع في مجال آخر، وهناك من لديه فرط حركة ونشاط زائد، وآخر يعاني اضطرابات التواصل، أو صعوبات التعلم، وهناك من لديه اضطراب طيف التوحد، وبعضهم يمتلك معدل ذكاء يفوق الطبيعي بكثير (فائقو الذكاء)، وعدم فهم طبيعتهم تلك قد يجعلهم يظهرون بمظهر الطفل المزعج، أو المتمرّد، فيتم تصنيفه خطأ على أنه يعاني مشاكل سلوكية، أو تعليمية، وتحدّيات في الفهم، والإدراك، ومعدل الذكاء».
وتضيف «عندما كانت جوليا بعمر سنة ونصف السنة، لاحظتُ أنها مختلفة، لم تكن كغيرها من الأطفال، فقد كانت كثيرة الحركة، فضولية، تكسر الأشياء، ولا تستجيب للتعليمات البسيطة، وكان من حولها يرون المشاكل فقط، ويشكون من تصرفاتها، ويركّزون على سلبياتها، والبعض وصفها بأنها مشاغبة، والبعض الآخر رآها غبية، لكنني كنت أراها مختلفة، وكان عليّ أن أجد سبب الاختلاف. ولأنني متخصصة، كنت أعرف الخطوات الأولى، وما يجب عليّ فعله، وهو الذهاب بها إلى زملاء التخصص نفسه، خشية أن تحكمني مشاعر وعاطفة الأم، فيؤثر ذلك في الحكم الموضوعي، والتقييم الدقيق، وهنا كانت المفاجأة. فابنتي لم تكن تعاني مشكلة في الذكاء، أو القدرات العقلية، بل كانت فائقة الذكاء، فقد كانت تقرأ، وتعدّ الأرقام في عمر سنة ونصف السنة، لكن في الوقت نفسه، لديها مشكلة شُخصت باضطرابات طيف التوحد البسيط، ومن ثمّ وضعنا الخطة العلاجية المناسبة لقدراتها».
مراحل التدخّل الفعال
وتواصل د. شهيرة «كانت أول خطوة في العلاج متمثلة في تقبّل اختلافها، وهذه أصعب مرحلة، وبعدها بدأنا رحلة التدخل الفعّال، من خلال استخدام الوسائل التعليمية التي تناسب ذكاءها الفائق، وتحافظ على انتباهها. وقمنا بإعداد بيئة تعليمية محفزة تمنحها الحرية للاستكشاف من دون الشعور بالإحباط، باستخدام وسائل التواصل البصرية التي ساعدتها على فهم العالم بطريقة واضحة، ما قلّل من نوبات الغضب وجعلها أكثر قدرة على الإنجاز. وكانت النتيجة أن جوليا التي كان البعض يراها مشكلة، أصبحت طفلة موهوبة، مبدعة، ومتميّزة، تسبق عمرها في التعلم، وتثبت يوماً بعد آخر أن التدخل الصحيح في الوقت المناسب قادر على إحداث تحول مذهل، ورائع».

خطوات تدريبية للأبوين
تحدد د. شهيرة بعض الخطوات الهامة التي يجب أن يتبناها الأبوان «من خلال تجربتي تلك أودّ أن أسلّط الضوء على أولى الخطوات التي يجب أن يُدرب عليها الأبوان نفسيهما، وهي:
- إدراك الفروق الفردية بين الأطفال، وعدم مقارنة الطفل بالآخرين، أو معاملته كأنه نسخة يجب أن تتطابق مع غيره.
- اكتشاف سبب الاختلاف، من خلال تحليل دقيق لمهارات الطفل وقدراته.
- تشخيص الحالة وفهم طبيعة الطفل، وهل هو يعاني اضطراباً معيّناً، أم أنه يمتلك قدرات خاصة تحتاج إلى توجيه.
- وضع خطة تدخّل وعلاج تناسب احتياجات الطفل، لضمان دعمه، وتنميته بطريقة صحيحة.

4 مؤشرات أو علامات تدل على أن طفلك مختلف
توضح الدكتورة شهيرة سامي بعض النقاط التي تشير إلى وجود شيء مختلف لدى الطفل، «لابد أن ينتبه الأهل لسلوكات أبنائهم، ويراعوا كما ذكرنا الفروق الفردية بينهم، مع الالتفات لبعض العلامات التي توضح أن هناك اختلافاً ما، منها:
مؤشرات متعلقة بالنمو العقلي والإدراكي
- تأخر ملحوظ في اكتساب المهارات الأساسية مثل الكلام، أو الفهم، أو التفاعل مع الآخرين.
- صعوبة في التعلّم مقارنة بالأطفال في نفس عمره، مثل عدم القدرة على تذكر الألوان، أو الأرقام، أو الحروف.
- ضعف القدرة على حلّ المشكلات في الألعاب البسيطة، أو اتّباع التعليمات البسيطة.
- تكرار الأخطاء نفسها من دون محاولة التعلّم منها، أو تحسين الأداء.
- عدم القدرة على التركيز لفترات مناسبة لعمره، أو التشتت الزائد عند أداء المهام.
مؤشرات متعلقة بالتواصل واللغة
- تأخر في النطق، أو عدم القدرة على تكوين جمل بسيطة مفهومة بعد سن 3 سنوات.
- عدم الرد عند مناداته باسمه رغم سلامة السمع.
- عدم القدرة على التعبير عن احتياجاته بالكلمات، أو بالإشارة.
- تكرار الكلمات، أو الجمل، من دون فهم معناها.
- تجنب النظر في العين، أو عدم استخدام تعابير الوجه المناسبة عند التحدث.
مؤشرات سلوكية واجتماعية
- الانعزال والابتعاد عن اللعب مع الأطفال الآخرين.
- نوبات غضب متكرّرة من دون سبب واضح.
- رفض التغيير والتعلّق الشديد بالروتين.
- سلوكات غير مناسبة مثل هز الجسم باستمرار، أو التلويح باليدين بشكل متكرر.
- عدم إدراك المخاطر (مثل الركض في الشارع من دون خوف).
- عدم إظهار مشاعر، مثل الفرح أو الحزن، في المواقف الاجتماعية المناسبة.
مؤشرات حركية وحسية
- ضعف أو بطء في المهارات الحركية مثل الجلوس، المشي، أو الإمساك بالأشياء، مقارنة بأقرانه.
- حساسية مفرطة تجاه الأصوات أو الأضواء أو اللمس، أو العكس (عدم الشعور بالألم أو الحرارة).
- صعوبة في المهارات الحركية الدقيقة ما يؤثر في الكتابة، أو اللعب، أو المهارات المتعلقة بالاستقلالية، مثل تناول الطعام بالأدوات بطريقة صحيحة، ارتداء الملابس، وتفريش الأسنان.
وبعد جمع المؤشرات والعلامات لابدّ من الذهاب إلى مختص للتشخيص المُبكر، والذي يعتبر حجر الأساس في تطور قدرات ومهارات الطفل، كي يضع الخطة العلاجية وبما يتناسب مع قدراته، واحتياجاته، ويكون ذلك بمشاركة الأهل، والمدرسة، والمركز المختص. وكلما بدأ التدخل مبكراً، زادت فرص تحسين قدرة الطفل على التواصل، ويصبح أكثر قدرة على التكيف مع البيئة المحيطة، ويشعر بأنه قادر على تحقيق النجاح مثل غيره».
احذري وصم طفلك بالغبي أو الفاشل أو المتخلف
يقودنا الحديث لنقطة مهمة، وهي مدى التأثير النفسي الواقع في الطفل عندما يتعرض لألفاظ مثل «غبي»، أو «متخلف»، من باب التعنيف، وتبيّن د. شهيرة سامي «لا بدّ أن تعي الأم أنها مرآة طفلها، فما يخرج من فمك ليس مجرد أصوات، بل هي رسائل تشكل وعي طفلك عن نفسه، وثقته بذاته...
وعندما تستخدمين ألفاظ مثل غبي، أو متخلف، أو فاشل، فهذه العبارات تظل محفورة في ذهنه مدى الحياة، وتؤدي لأضرار جسيمة أهمها:
- انخفاض ثقته بنفسه، فيبدأ بتصديق أنه أقلّ من الآخرين ويعتاد على التنمّر والإهانة منهم.
- كما يخشى خوض غمار أيّ تجربة لأنه يشعر بأنه مهما حاول فلن يكون جيداً بما يكفي.
- بجانب إحساسه بالانطوائية والعدوانية كردّ فعل على الشعور بالإهانة والرفض.
- إضافة إلى قلة الرغبة لديه في التعلم لأنه يرى نفسه غبي وفاشل».
ماذا يجب على الأهل فعله عندما يأتي ابنهم ويقول إن أصدقاءه أو زملائه في المدرسة يصفونه بالغبي؟
- الاستماع والإنصات الفعّال ومنح الطفل الشعور بالأمان والتعبير له عن تفهمي لمشاعره من دون التقليل من حجم المشكلة.
- تعزيز ثقته بنفسه وتذكيره بنقاط قوته، وجعله يردّدها مراراً وتكراراً.
- تعليمه الردود الواثقة والمختلفة، مثل «الغبي فقط هو الذي يعتقد أنه أفضل من الجميع، ويملك الحكم على الآخرين»، أو «الأشخاص الواثقون بأنفسهم لا يحتاجون إلى إهانة الآخرين، بل يدعمونهم».
- مساعدته على بناء مهارات المواجهة، والثبات الانفعالي، وتدريبه على التحكم في مشاعره، والهدوء، وعدم إظهار التأثر، واللجوء إلى معلم أو أخصائي موثوق.
- التواصل مع المدرسة إذا استمر زملاؤه في سلوكهم، وإبلاغ الإدارة أو المعلم المسؤول كي يردعهم لضمان بيئة آمنة وداعمة للطفل.