03 أغسطس 2020

د. باسمة يونس تكتب: درس المتنبي

كاتبة إماراتية، دكتوراه في القيادة التربوية. أصدرت (10) مجموعة قصصية، (4) روايات،(12) نص مسرحي وعدة أعمال درامية وإذاعية .حاصلة على أكثر من( 22 ) جائزة في مجالات الرواية والقصة والمسرحية

د. باسمة يونس تكتب: درس المتنبي

لطالما وقع الإنسان ضحية لمن يظهرون وجه المحبة والصداقة، بينما تتوارى خلف هذا الوجه عداوة هائلة، تستعد للخروج في لحظة غضب أو بسبب الغيرة والحسد من خير أصابه. وأكثر من يعانون هذه الصداقة الواهمة هم الذين يرتكزون عليها بكل ثقلهم ويجعلونها محوراً أساسياً لحياتهم، فيصبح أصدقاؤهم أشد قرباً لهم من أهلهم وأحصن خزائن أسرارهم وأمنياتهم، إلى أن تنكشف لهم الحقيقة ذات لحظة غير متوقعة، فتنقلب صداقتهم لعنة وتمزق قلبهم من دون رحمة ولا شفقة.

ومن منا لا يتذكر حادثة الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي، الذي كانت أموال الأمراء تتدفق عليه بغير حساب، وكان يلقي شعره جالساً في بلاط الأمير، بينما لا يجرؤ غيره من الشعراء على فعل ذلك، وهو ما جعل بقية الشعراء المحيطين بأمير حلب والذين كانوا يصفقون لشعره الذي يقض مضاجعهم وقلوبهم المليئة بالحقد، يتآمرون عليه ويتفقون على ما سينزع محبة الأمير من قلبه لينالوا منه بوشاية ويحتلوا موقعه الذي لم يكن بمقدور أحد احتلاله. ويرد «المتنبي» يومها معاتباً الأمير الذي التفت عنه إليهم، وسمح لهؤلاء الغادرين بأن يوغروا صدره عليه على الرغم من أنه لم يقتله بسيفه لكنه قهره بتجاهله، قائلاً: 

سيعلـم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم، أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعــت كلماتي مَن بهِ صممُ، أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرها ويختصم، إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةٌ فلا تظُنَّن أن الليثَ يبتسِمُ

إن الليث لا تبرز أنيابه للترحيب بالفريسة، بل بانتظار وقوعها بين مخلبيه، كما فعل المتآمرون ومن كانوا يتوددون له مظهرين صداقتهم ومخفين وراءها عداوتهم وأمنياتهم الغادرة بالتخلص منه. وعلى الرغم من التجارب العديدة التي برزت فيها نيوب أكثر من ليث عبر التاريخ والزمان لا يزال هناك من يلاقي فريسته بابتسامة، ويتسلل إلى حياتها بخطوات وئيدة غير مكشوفة، ولا يزال هناك ضحايا من الفرائس المتباينة ما بين سذاجة وحكمة، وضعف وقوة فليس مهماً أن يكون الإنسان عالماً، بل الأهم أن يمتلك معرفة أكثر من التي يحتاجها من العلوم وقدرات أعمق مما تسهم به ورش وتدريبات التخطيط الاستراتيجي والتفكير الناقد لحماية نفسه من العدو الخفي الذي لا يرى بالعين المجردة، ولمواجهة حالات الخيانة والغدر المفاجئ كما فعل المتنبي الذي تماسك حاملاً كبرياءه ومغادراً معه بلاط سيف الدولة.

وليس علينا أن نقلق أفكارنا بالحذر ممن يسمون أنفسهم بالأصدقاء وأن نجهد أنفسنا بالبحث عما تخفيه ثياب الحمل الوديع وما يتسترون فيها من براءته، بل علينا أن نتعلم بأن السر إن خرج من قلب صاحبه لا يعود سراً، بل يتحول إلى مقصلة تلاحقه لكي تلف حبالها حول عنقه. وها هو التاريخ يحكي لنا قصصاً وحكايات، ستظل الحارس الأمين على من سيأتون في أزمان تلي الزمن الذي حدثت فيه، وهي القلب الحافظ لكل إنسان في غياب محبيه ومن يخافون عليه، فالتاريخ ليس مجرد زمن يمر وينقضي، إنما هو المعلم الذي يترك في النفوس آثاراً لا تنمحي على مر الزمان.