25 أغسطس 2020

أسرار وخفايا قصر البارون

محرر متعاون - مكتب القاهرة

 أسرار وخفايا قصر البارون

منحت مصر قبلة الحياة لواحد من أهم القصور التراثية القديمة في البلاد، وهو «قصر البارون»، لتعيد افتتاحه للجمهور من جديد، بعد عقود ظل خلالها القصر الفريد مهجوراً، وتنهي بذلك العديد من الحكايات المثيرة والشائعات التي حولته من مبنى معماري فريد قلما يوجد مثيل له في العالم إلى «مأوى للأشباح».

قصر البارون

أعيد افتتاح قصر البارون بعد عملية ترميم شاملة قامت بها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، بتكلفة تجاوزت مئة مليون جنيه، حيث شملت أعمال الترميم التدعيم الإنشائي وأسقف القصر وتشطيب الوجهات والعناصر الزخرفية، واستكمال النواقص من الأبواب والنوافذ، إلى جانب ترميم الأعمدة الرخامية، والوجهات الرئيسية واللوحات الجدارية، فضلاً عن حديقة ومدخل القصر، قبل أن تضيف وزارة الآثار لمسة تراثية بتنظيم معرض ثابت داخل حديقة القصر يروي تاريخ منطقة هليوبوليس بالقاهرة، ويضم مجموعة من الصور والوثائق الأرشفية، والرسومات الإيضاحية والخرائط، والمخاطبات الخاصة بتاريخ حي مصر الجديدة، عبر العصور المختلفة.

قصر البارون

يطل قصر البارون على شارع العروبة المؤدي إلى مطار القاهرة الدولي، ويمتد على مساحة تصل إلى 12 ألف متر مربع، ويتكون القصر من طابقين، يضم الطابق الأول منه صالة كبيرة وثلاث حجرات، منها حجرتان للضيافة، فيما استعملت الثالثة كصالة للعب البلياردو، بينما يضم الطابق العلوي 4 حجرات للنوم لكل حجرة حمامها الخاص، بينما يضم السرداب المطبخ والمرائب وحجرات الخدم.

ما حكاية قصر البارون؟

قصر البارون

ترجع قصة بناء القصر إلى نهاية القرن التاسع عشر، بعد عدة سنوات من افتتاح قناة السويس، عندما رست على شاطئ القناة سفينة كبيرة قادمة من الهند وعلى متنها مليونير بلجيكي يدعى «إدوارد إمبان»، وقد كان الرجل يحمل لقب «بارون» منحه إياه ملك فرنسا تقديرا لمجهوداته في إنشاء مترو باريس، فقد كان «إمبان» مهندساً متميزاً، وصاحب عقلية اقتصادية فذة، أقام مشروعات عديدة حول العالم، جلبت له الكثير من الأموال، وكان على رأس تلك المشروعات بنك بروكسل في بلجيكا.

لم تكن هواية «إدوارد إمبان» الوحيدة هي جمع المال، فقد كان يعشق السفر والترحال باستمرار، ولذلك انطلق بأمواله التي لا تحصى إلى معظم بلدان العالم، فطار إلى المكسيك ومنها إلى البرازيل، ثم أمريكا الجنوبية وإفريقيا، حيث أقام الكثير من المشروعات في الكونغو وحقق من ورائها ثروة طائلة، ومن قلب القارة السمراء اتجه شرقا إلى بلاد السحر والجمال الهند.

عاش «إدوارد إمبان» سنوات طويلة في الهند، بعدما استهوته أساطيرها القديمة، قبل أن يقرر شد الرحال إلى مصر التي عشقها لدرجة الجنون، واتخذ قراره بالبقاء فيها حتى وفاته، بل إنه كتب في وصيته أن يدفن في تراب مصر حتى ولو وافته المنية خارجها.

قصر البارون

كانت المنطقة التي بنى البارون «إمبان» قصره عليها تقع على حدود القاهرة الخديوية، بالقرب من الصحراء، وقد اختار البارون هذا المكان نظرا لقربه من القاهرة، ولما يتمتع به من صفاء الجو ونقاء الهواء، وعكف على دراسة الطراز المعماري الذي سيشيد به بيته في القاهرة.

ولأنه كان مهتما بفن العمارة، اتخذ قرارا بأن يقيم قصرا لا مثيل له في الدنيا، لكن بقي اختيار الطراز المعماري مشكلة تؤرق البارون، حتى عثر على ضالته المنشودة داخل أحد المعارض الفنية في العاصمة الفرنسية، ففي هذا المعرض وقعت عيناه على تصميم لقصر غاية في الروعة، أبدعه فنان فرنسي اسمه «ألكسندر مارسيل»، فقد كان التصميم شديد الجاذبية، ويمثل خليطا رائعا بين فن العمارة الأوروبي وفن العمارة الهندي.

لم يتردد البارون «إدوارد إمبان» لحظة فاشترى التصميم من «مارسيل» وعاد به إلى القاهرة، قبل أن يدفع به إلى عدد من المهندسين الإيطاليين والبلجيكيين، ليشرعوا في بناء القصر على الربوة العالية التي حددها لهم في صحراء القاهرة.

قصر البارون

وتشير العديد من الوثائق المصرية إلى أن فترة بناء القصر استمرت خمس سنوات، قضي القائمون على بنائه معظمها في تجميل القصر وتزيين شرفاته بالتماثيل المرمرية، وتشييد البرج المسحور، وهو برج يدور على قاعدة متحركة دورة كاملة كل ساعة ليتيح للجالس به مشاهدة ما حوله في جميع الاتجاهات، وهو ما يميز القصر عن غيره من القصور الفارهة التي بنيت في تلك الفترة، فضلا عن جدرانه التي زينت بالتماثيل المرمرية الرائعة التي تجسد راقصات من الهند، إلى جانب نوافذ القصر المرصعة بقطع صغيرة من الزجاج البلجيكي، والحيوانات الأسطورية المتكئة على جدران القصر.

ما حقيقة الغرفة المسحورة؟

قصر البارون

لا تغيب الشمس عن قصر البارون طوال ساعات النهار، لكن ذلك لم يمنع كثيرا من الشائعات التي لاحقته خلال العقود الماضية التي حولته إلى بيت للرعب، وقد كان من أبرز تلك الشائعات ما ردده الجيران في المنطقة المتاخمة للقصر من أنهم يسمعون أصواتا مبهمة تنطلق من حجراته في منتصف الليل، وأنهم كانوا يشاهدون أضواء غامضة في الساحة الخلفية للقصر، وهي الروايات التي يؤكدها محمد إبراهيم، وهو حارس عقار قريب من القصر، الذي يقول «كان كل ما يقال عن وجود الأشباح صحيحا، وقد شاهدت بعيني منذ سنوات دخاناً كثيفاً ينبعث من داخل إحدى الغرف بالقصر، قبل أن يظهر وهج لنيران ما لبثت أن انطفأت وحدها».

لا يعرف أحد على وجه الدقة لماذا اختار البارون إمبان هذه العمارة الغريبة لبناء قصره، لكن كثيرين يذهبون إلى أنه ربما كانت حياته التعيسة في بادئ الأمر هي السبب في ذلك، إلى جانب ما لاحق القصر على مدار العقود الماضية من قصص مرعبة حول الأشباح التي تسكنه.

فقد ولد البارون «إمبان» بعرج ظاهر في قدميه، قبل أن يصاب لاحقا بالصرع، ويقال إن نوبات من الصرع كانت تضربه كثيرا وتسقطه أرضا في حديقة قصره، ليظل غائبا عن الوعي حتى تشرق عليه الشمس في الصباح، بينما كلبه يقف إلى جواره حتى يفيق، فالبارون لفرط صرامته لم يكن أحد من الخدم يستطيع الاقتراب منه إلا بأمره، حتى لو كان ملقى على الأرض فاقدا للوعي.

ربما كانت أيضا تلك الغرفة المسحورة الموجودة في القصر سببا في انطلاق عشرات من الشائعات حوله، وهي غرفة صغيرة يقال إن «البارون إمبان» حرم دخولها حتى على ابنته وأخته البارونة «هيلانة»، وتتميز تلك الغرفة بلونها الوردي، وتوجد في بدروم القصر، وتفتح أبوابها على مدخل السرداب الطويل، الممتد لكنيسة البازيليك التي دفن فيها البارون بعد موته.

قصر البارون

لكن المؤكد أن قصة الموت الغامض لشقيقة البارون، لعبت دوراً كبيراً في استمرار تلك الحكايات المرعبة عن القصر، فقد قتلت أخت «البارون» بعد سقوطها من شرفة غرفتها الداخلية، في الوقت الذي كان برج القصر يتجه ناحية الجنوب، ويقال إن قاعدة البرج توقفت فجأة عن الدوران في تلك اللحظة على صوت صرخات هيلانة، ولعل هذا الموت الغريب كان سببا في ترويج عشرات من القصص الخرافية التي تحكي عن أشباح تسكن القصر، وتخرج في الليل من غرفة أخت البارون، التي يردد كثير من أهالي حي مصر الجديدة، خصوصا في المنطقة المتاخمة للقصر، إنهم سمعوا كثيراً عن تلك الليلة التي نجح فيها البارون في «تحضير روح أخته» للاعتذار لها عن عدم لحاقه بها لإنقاذها من الموت، مشيرين إلى أنهم سمعوا تلك الحكايات منذ زمان بعيد.

تحول قصر البارون منذ سنوات إلى قبلة للمغامرين من المراهقين المصريين، وقد تورط بعضهم في تنظيم حفلات صاخبة بداخله ليلا، وهو ما حدث في عام 1997 عندما أوقفت السلطات عدداً من الشباب أثناء حفل صاخب داخل القصر، وقد كانت تلك الضجة الإعلامية سبباً في توقف تسلل كثير من المراهقين إلى القصر في الليل، واختفت معهم تلك الأصوات التي كان يسمعها الجيران، ويعتبرونها أصوات أشباح تسكن القصر