قبل نحو عام طلب مني مقدّم برنامج «بي بي سي إكسترا» الذي كان يستضيفني في إحدى حلقاته أن أختار أغنية أحبّها، وأن أشرح، أيضاً، لماذا أحبّها.
اخترت يومها أغنية لفيروز، هي أغنية «يامرسال المراسيل». منطقي جداً بالنسبة لي أن أختار فيروز بالذات من بين كل المطربين والمطربات، فعلاقتنا كمستمعين مع أغاني فيروز وصوتها ليست بحاجة لشرح، ولكن الشرح المطلوب كان يتصل بالسؤال التالي: لماذا هذه الأغنية بالذات وليس سواها؟
لن أعيد هنا الشرح الذي قلته يومها عن علاقتي بهذه الأغنية، وسبق لي تناوله بشيء من الإسهاب في كتابي «ترميم الذاكرة»، لكن السؤال والإجابة عليه نبهاني إلى أمر نحياه كلنا، حتى دون أن ننتبه له، أو لا تتاح لنا الفرصة لشرحه، وهو أننا من بين مئات، وربما آلاف، الأغنيات التي سمعناها على مدار حياتنا، نتعلق بأغاني بعينها، وربما بأغنية واحدة أكثر من سواها، ليس لأنها بالضرورة أجمل ما سمعناه من أغاني.
قد لا تكون أغنية «مرسال المراسيل» على الرغم من جمالها الأخاذ، كلمات ولحناً وأداءً، أجمل أغنيات فيروز، وليست بالضرورة أكثرها صيتاً وانتشاراً، لكنها هي بالذات التي قفزت إلى ذهني حين طلب مني المذيع أن أختار أغنية بعينها، وأوضح لماذا هي بالذات.
أحسب أن هذا ينطبق علينا كلنا. نحبّ أغنية ما، ونتذكرها أكثر من غيرها لأنها ارتبطت في أذهاننا بذكرى معينة عزيزة على قلوبنا، أو توقظ ذكرى ناعسة في قلوبنا، وقد لا تبعث هذه الذكرى على الفرح والسعادة بالضرورة، بل بالعكس قد تثير شجناً في نفوسنا، وربما «تقلّب بعض المواجع» غصباً عنا، حتى تلك التي حسبنا أننا شفينا منها، لنكتشف في لحظة ما أن ثمة جرحاً غائراً في النفس نتناساه ولا ننساه.
الأغنيات، إذاً، ليست مجرد طرب يفرح أرواحنا، إنها حكايات. حكايات تخصّنا نحن وحدنا، ونحن العالمين جيداً أن شخصاً آخر سوانا من كتب كلماتها وأن شخصاً ثانياً هو من وضع ألحانها، وأن صوتاً عذبا، كصوت فيروز مثلاً، هو من أداها، ولكن ما يشدّنا لحظة سماعها أكثر من أي شيْ آخر، هو الحكاية الغافية التي توقظها في نفوسنا.
وطبيعي أن يتبادر إلى أذهاننا السؤال: لماذا هذه الحكاية بالذات التي تظل حاضرة بين الآف الحكايات التي عشناها، وتوقظها الأغنية؟ جربوا أن تفعلوا ما فعلته حين سألني المذيع عن الأغنية. اختاروا أغنية واشرحوا لأنفسكم على الأقل: لماذا هي بالذات؟