في رحاب الشهر الفضيل، وموسم الإيمان والتقوى، يستقطب جامع «طينال» في طرابلس اللبنانية، المصلّين لأسباب عدة، أخصّها في رمضان المبارك صلاة التراويح، فيتجمع المصلّون في أروقته الداخلية، وباحاته الخارجية الفسيحة، يتمّمون شعائر الصوم. إذ علاوة على اتّساعه، يتميز الجامع بجماليات تجمع حضارات وشعوب الأمم التي مرّت في المدينة، ورغم أن أغلبية المساجد الأثرية فيها تحمل شيئاً من التمازج الحضاري، مع غَلبة مملوكية شاملة، إلّا أن جامع «طينال» يظلّ الأجمل، والأوسع، والمتمايز بعناصر فريدة.
يضاهي جامع«طينال»، بزخارفه الرائعة، مساجد القاهرة الفخمة التي خلّفها المماليك، ويعتبر أجمل جوامع طرابلس، وأفخمها على الإطلاق، ويقع في الجهة الجنوبية للمدينة، خارج البوتقة القديمة لطرابلس المملوكية، ومن جمالياته الخارجية وجود أربع قُبب متفاوتة الحجم له، ومن مميّزاته مئذنته التي يمكن الصعود والنزول منها لشخصين في آن، من دون أن يلتقيا، وهي حالة نادرة في المآذن، وبحسب لوحة على مدخله، فقد بُني في سنة 736 هجري 1377 ميلادي، على أنقاض كنيسة صليبية كانت مهدّمة بعد فتح طرابلس بقيادة السلطان المنصور قلاوون.
جامع طينال.. مهارة وذوق متناسق الجمال
يذكر المؤرخ الطرابلسي الدكتور عمر تدمري، في كتابه «مساجد ومدارس طرابلس»، أن «الكنيسة المهدمة ظلت مهجورة خارج المدينة حتى تولى الأمير سيف الدين طينال الحاجب نيابة طرابلس، وقام بتحويل انقاضها إلى جامع عرف باسمه». ويرجّح الباحث في آثار المدينة أواسط السبعينات الدكتور حسان سركيس، أن «الجامع احتل المكان الذي يقوم عليه معبد زيوس الروماني، حيث كانت الأعمدة وقواعدها وتيجانها لا تزال قائمة في مكانها عند بناء الجامع».
ويرى باحثون آخرون، أن الجامع تشكّل من عناصر غير موحّدة استخدمت في بنائه من مصادر مختلفة، وإذا كان أساس المبنى معبداً رومانياً بحسب سركيس، فإن من يتمعن في بعضٍ من أعمدته، يرجّح أنها استُقدمت من البحر في الميناء من بقايا مدينة طرابلس التي دمّرها المماليك سنة 1289م، وطردوا منها الصليبيين. وما يرجح هذا الافتراض تآكل الأعمدة الغرانيت التي نخرها الموج، وملوحة المياه، وبقيت بعض صدفيات ورمال عالقة في الثقوب التي حدثت بفعل التآكل. وفي مقارنة بين هذه الأعمدة، وأعمدة كنائس ومساجد وقلاع، وخلافها، نجد ما يماثلها حفراً، ونقشاً وزخرفة، ما يرجّح فرضية استقدام قسم من الأعمدة من أبنية سابقة. وهكذا، فإن المزيج المعماري الذي يتكوّن منه الجامع يدل على مهارة وذوق كبيرين في إخراج بناء واحد متناسق الجمال، من عناصر متعددة، وحضارات متنوعة.
تشكيل هندسي بديع للباب الداخلي
للجامع باب شرقي مُطل على باحته الخارجية، ينتصب عند طرفيه عمودان من الغرانيت، ويؤدي الباب إلى باحته المستطيلة، وتوجد بِركة مربّعة الشكل للوضوء تقوم على أرضية مرتفعة عن أرضية الباحة. وتطالع الداخل من البوابة إلى الباحة أربع قناطر بأربع قاعات متجاورة في الجهة الغربية من الباحة، أما على يسار الداخل إلى الباحة في الجهة الشرقية، فتوجد غرفة صغيرة أقيمت تحت قنطرة يعتقد أنها كانت لحرس الجامع المكلفين بفتح الباب الخارجي وإغلاقه، وداخل القنطرة بئر معطلة. أما جنوب الباحة، فتقوم قنطرة مربعة الشكل ترتكز على واجهة الجامع الشمالية، تحتها بوابة بيت الصلاة الأول، ذات الحجارة البيضاء والسوداء المنتشرة في العمارة المملوكية.
ومن مميزات الجامع بابه الداخلي الذي يعتبر تشكيلاً هندسياً رائعاً بحدّ ذاته، فالباب مساحة مستطيلة الشكل، مجوفة، على جانبيها مصطبتان ترتفعان عن الأرض نحو 60 سم. وتزين البوابة صفوف متناسقة من الحجارة البيضاء والسوداء، وتتوسط العتبة التي تعلو الباب زخارف، وفوقها مثلث متسع للأضلاع نقشت داخله كتابة هي: «من بنى أبدله الله قصراً في الجنة». ويقوم فوق المثلث عقد «فيه سنجات متعاشقة»، بحسب وصف تدمري، يتناوب فيها اللونان الأبيض والأسود، وفوقه بلاطة بيضاء، ثم شريط أسود تعلوه زخرفة رائعة، وعلى جانبي الزخرفة قطاعان من الرخام الأبيض والأسود، بشكل هندسي متناسق، وفوق هذه الزخرفة شريط أسود آخر، فوقه قطاع مستطيل في العرض، نُقش فيه النص التاريخي لبناء الجامع.
وبمستوى هذه اللوحة يلفت تدمري إلى وجود «فجوتين في زاويتي البوابة، تقوم فوقهما مقرنصات مجوفة، ثم طبقة مجوفة أخرى تنتهي بمتدليات، ثم طبقة ثالثة من المجوّفات، فوقها شريط أسود في باطن القوس، وفوق هذا الشريط خط متعرج باللّون الأحمر، ثم خط متعرج باللون الأسود، وأخيراً خط متعرج باللون الأحمر يشكل الزاوية النهائية للعقد المنكسر للبوابة».
وينهي تدمري وصف الباب بأن «على جانبيه، وعند نهاية الإطار العرضي له، نُقش خطّان متعرّجان من أعلى إلى اسفل. وعلى واجهة البوابة اليمنى نقشت أربعة اسطر تمتد الى باطن الجدار الغربي تتضمن وقفية الجامع».
الحرم الجنوبي.. والمئذنة
يذكر تدمري في تفصيله لهندسة الجامع أن «الحرم الجنوبي يضم المحراب، والمنبر من تسعة أساطين، وعلى أركان الأسطوان الأوسط تقوم أربع عضاضات ترتكز عليها قبّة الجامع الثالثة. وهناك قبّة رابعة تقوم فوق اسطوان المنبر والمحراب على ثلاث حطات من المقرنصات المجوفة، وهذه القبّة أصغر قباب الجامع».
ويلفت تدمري إلى أرضية الحرم، المكسوة بزخرفة من الفسيفساء الملون ذات الأسلوب الإسلامي الخالص، ويضيف «في الحرمين، الشمالي والجنوبي، فتحتان تتوسطان بركتين من الزخرفة الرخامية، مهمتهما تصريف المياه عند تنظيف الجامع.. وتعلو مدخل الحرم سدّة خشبية، أشبه بالتتخيتة، يصعد إليها بسلم خشبي في الجهة الشرقية، وقد ازدانت جوانب السدّة بتشكيلات فنية جميلة ملونة». ويذكر تدمري أن «حوافي الأساطين المحيطة بالأسطوان الأوسط مكسوة بأحجار رخامية بلقاء (بيضاء وسوداء).. أما محراب الجامع فهو من الحجارة الرملية التي بني بها الجامع، يقوم على جانبيه عمودان من الرخام الأبيض، متوّجين بزخرفة بسيطة. وعلى يمين المحراب يقوم منبر الجامع الخشبي المزخرف».
أما مئذنة جامع «طينال» فتمتاز عن مآذن طرابلس بطرازها المعماري، وبوجود سلّمين حجريين داخلها، وهما غير متقابلين بحيث إذا صعد اثنان في وقت واحد إلى السلّمين لا يلتقيان، وهذه ظاهرة نادرة في المساجد، بحسب تدمري، الذي يشرح واقع المئذنة الهندسي، فهي «مربعة الشكل في القسم الأسفل منها، الذي تبدو عليه آثار أربعة نوافذ في جهاتها الأربع، وفي أعلى المئذنة شرفة مستديرة بارزة، وبناء الشرفة يشبه البرج الحربي، ما يجعل بعض الاثريين يعتقدون أن المئذنة كانت في الأصل برج الأجراس للكنيسة الكرملية. وتنفتح في هذا البرج أربع نوافذ عريضة. وللمئذنة شرفة أخرى أصغر من الشرفة الأولى، وفي وسطها يقوم رأس المئذنة السداسي الأضلاع الذي ينتهي بقبّة صغيرة بيضاوية الشكل يعلوها الهلال».
إعداد: سونيا نعمة