تقدم طاحونة أبو شاهين الأثرية في مدينة رشيد المصرية، نموذجاً نابضاً بالحياة لما كانت عليه طواحين الغلال في مصر خلال القرن الثامن عشر، وكيف لعبت تلك الطواحين، التي كانت تصنع من أخشاب الأشجار وعناصر الطبيعة الأخرى مثل الحجارة، دوراً كبيراً في رفد البيوت باحتياجاتها من الدقيق اللازم لصناعة الخبز، الذي يمثل -وما يزال- الوجبة الرئيسية للغالبية العظمي من المصريين، على اختلاف مستوياتهم الاقتصادية وطبقاتهم الاجتماعية.
تعد الطاحونة العتيقة، التي يرجع تاريخ بنائها إلى أواخر القرن الثامن عشر، الطاحونة الوحيدة الباقية من ذاك الزمن الذي انتشرت فيه الطواحين في العديد من المدن والقرى المصرية القديمة لعقود، قبل أن تتحول إلى أثر بعد عين.
ويرجع تاريخ إنشاء طاحونة (أبو شاهين) إلى صاحبها الأول عثمان أغا الطوبجي، الذي شغل موقع قائد المدفعية في الجيش العثماني، ويقول مؤرخون: إن القائد العثماني الكبير قضى في رشيد فترة من الزمن، ربطته بالمدينة فأحبها وقرر الإقامة بها، فاشترى بيتاً ما يزال يعرف حتى اليوم باسم «بيت الأمصيلي» نسبة إلى بانيه الأول وأقام فيه..
وكان حريصاً على أداء الصلوات في مسجد «المحلي» القريب من البيت، وهو أحد المساجد العتيقة في المدينة، فلاحظ خلال تردده على المسجد تردي أحواله وإهمال صيانته، فقرر إنشاء طاحونة ووقف جزء من ريعها للإنفاق على المسجد والاهتمام بصيانته..
وقد ظلت الطاحونة لعقود طويلة تعمل بشكل يومي، باستثناء يوم الجمعة الذي كان يمثل يوم العطلة الأسبوعية للطحان القائم على العمل بها، وفرصة أسبوعية حتى تلتقط البغال التي كانت تقوم على تشغيل الطاحونة أنفاسها بعد عناء أسبوع طويل.
ظلت طواحين الغلال في مصر تعمل باستخدام الدواب لفترة طويلة، قبل أن يتم استبدالها مع منتصف القرن التاسع عشر بالآلات الحديثة التي تعمل بالكيروسين وقد كانت البغال تستخدم في تشغيل الطاحونة، عن طريق ربطها في ذراع خشبية كبيرة تنتهي إلى مجموعة من التروس اللازمة لتشغيل الطاحونة..
وقد كانت تلك هي السمة الغالبة للعمل في طواحين الأثرياء، بينما كانت طواحين الفقراء تعمل بسواعد الرجال، حيث يقوم على تشغيلها مجموعة من العمال، يتناوبون العمل بنفس الطريقة لتحريك التروس التي تنتهي إلى حجر ضخم يقوم على طحن مختلف أنواع الحبوب، وعلى رأسها القمح والشعير والذرة.
ويطلق أهالي رشيد على تلك الطاحونة العتيقة اسم طاحونة الطوبجي نسبة لبانيها الأول، وفي أحيان أخرى يطلقون عليها «طاحونة أبو شاهين» نسبة لابنه الذي قام بعد رحيل والده بالاعتناء بها، فخصص لها مبنى يتميز بعمارته الفريدة، وهو المبنى الذي ما يزال قائماً حتى اليوم، وتطل واجهته الرئيسية على شارع الأمصيلي، الذي يعد أحد أشهر الشوارع التاريخية في مدينة رشيد.
ينظر كثير من أهالي مدينة رشيد إلى تلك الطاحونة العتيقة نظرة احترام وتقدير شديدين، فهي بالنسبة لهم لم تكن مجرد طاحونة تقوم على طحن الغلال، بل وقفاً خيرياً امتدت عطاياه على مر الزمان للمسجد العتيق بالمدينة..
إذ كان جزء كبير من ريع الطاحونة طوال عقود، يذهب للإنفاق على المسجد «المحلي»، وأجر الخطيب الذي يباشر مهمة أداء الشعائر المختلفة، بل ورفد المسجد بما يحتاجه من الزيت اللازم للإنارة وتشغيل المشكاوات، وشراء البسط للأرضيات.
يتميز مبنى طاحونة الطوبجي بمعماره الفريد، الذي يماثل فنون العمارة التي كانت سائدة في ذلك الوقت في العديد من المناطق المصرية، وهو ما يبدو واضحاً في جدرانه التي بنيت بالطوب المنجور..
وهي واحدة من أشهر طرق البناء في ذاك العصر، والتي كانت تستخدم فيها الحجارة الحمراء والأخرى السوداء في تناغم بديع، يظهر بوضوح في العقود الثلاثية أو المدائنية المميزة للجدران الحاملة للأسقف.
كما يتميز مبنى الطاحونة ببابه الخشبي الضخم ذي المصراعين، وهو الباب الذي يؤدي إلى مدخل الطاحونة الذي يضم دركاة تتكون من مسطحين كانا مخصصين لوضع الحبوب، وتجفيفها قبل عملية الطحن.
إلى جانب غرفة علوية من ناحية الغرب خصصت في الزمان الغابر لإقامة الطحان، الذي كان يتعين عليه أن يظل ملازماً للطاحونة، لا يغادرها خصوصاً في مواسم الحصاد.
ترتفع حجرة الطحان في طاحونة الطوبجي بضعة أمتار عن فناء الطاحونة، ويتم الصعود إليها عن طريق سلم يبدأ من المدار الغربي، يتوازى مع سلم آخر في المدار الشرقي، يؤدي إلى سطح الطاحونة، والمداران مزودان بطاحونين، أحدهما في الجهة الشرقية والآخر في الجهة الغربية، كل مدار مكون من حجر مستدير به فتحة في وسطه..
يوجد في أسفلها قاعدة ثابتة، ذات حافة بارزة لحجز الحجر المستدير، وفتحة أخرى لصب الدقيق، في ما الحجر العلوي مثبت من أسفله بعجلة صغيرة تتصل بدورها بترس مصنوع من الخشب، مثبت في قائم خشبي رأسي مربع الشكل، موضوع بمحور الترس الكبير، يدور حول نفسه وينتهي من أعلى بإصبع خشبية تسمى «الخشبة المستعرضة»..
وهي عبارة عن كمرة خشبية تحمل أجزاء الطاحونة، وقد كانت تلك الخشبة المستعرضة توضع على رقبة الثور أو البغل، لتحريك الهرميس المتصل بالترس الكبير، الذي يتولى تشغيل الطاحونة.
* تصوير – أحمد شاكر