مَلمس فنجان قهوة في يدنا، رائحة القهوة التي تفوح، دقات الساعة المنتظمة، حركة الهواء ذهاباً وإياباً في رئتينا، أشعة الشمس الغاربة التي تدفئ وجنتينا... الأحاسيس في كل مكان، لكننا لم نعد ننتبه لها لشدة انشغالنا بالنظر إلى حركة الأشكال المضيئة على الشاشات من حولنا.
وهذه مشكلة. لأننا حين ننقطع عن أحاسيسنا، يصاب دماغنا بالقلق. فهو بحاجة إلى هذه الإشارات الملموسة والمسموعة والعطرة. لهذا السبب تكشف النشاطات اليدوية أو تلك التي تعيد ارتباطنا بجسدنا وبحواسنا عن قدرة علاجية. حين ننتبه إلى أحاسيسنا الداخلية، عندما نمارس نشاطات كالرسم أو الحياكة أو الاعتناء بالنباتات أو اليوغا والتأمل... نعيد ربط الجسم بدماغه، ونتصل بأنفسنا ونسكت الاجترار الفكري والضغوط والقلق. أحدث الأبحاث حول هذا الموضوع تؤكد هذه الحقيقة.
الارتباط مجدداً بطبيعتك الخاصة
قطف الأزهار أو الفاكهة يمثل عودة ممتعة إلى الطبيعة، وطريقة مختلفة في تغذية الذات، من خارج الشراء من السوبر ماركت. هي علاقة مختلفة مع البيئة في عالم مبالغ في حداثته، وهي فرصة للاتصال مجدداً مع إيقاع النباتات والفصول.
على امتداد قرون من الزمن، سمحت لنا يدانا بتغيير بيئتنا. كانتا بمثابة أدوات إنتاج أساسية لأننا بها صنعنا أشياء وزرعنا الأرض وأبدعنا أعمالاً فنية. أما اليوم، فإن وظيفة يدينا في يوم عادي كثيراً ما تنحصر في النقر على لوحة مفاتيح أو تحريك شاشة الهاتف.
يشكل هذا الاكتفاء بالحركات البسيطة والمتكررة المرتبطة بقلة الحركة الشديدة التي تنجم عن استخدام أدوات إلكترونية ورقمية، واحداً من التغيُّرات البارزة في نمط حياتنا جعلت جسمنا محدوداً بمجالات الرياضة أو المظهر الخارجي. ومع هذا، وحتى فترة قريبة، كنا بحاجة إلى أن نحرك جسمنا يومياً. كما أن الدماغ يكرس جزءاً كبيراً من موارده لليدين، كما تبيِّن المنطقة الدماغية من القشرة الحركية المخصصة لهما، وهي مساحة أكبر نسبياً مما يخصص للمناطق المتصلة ببقية أنحاء الجسم.
اهتمت دراسات عديدة بالمجال الحركي الدقيق وتحفيز المناطق الدماغية التي تتحكم بحركة أصابعنا العشر. الكتابة باليد، بدلاً من النقر على لوحة المفاتيح، تحسن التذكر. كما أن دراسات حديثة أجريت في جامعة 'ترونهايم' في النرويج قد بينت أن الكتابة باليد تنعكس ترابطاً أكبر بين مختلف مناطق الدماغ، ما يحفز الترابط العصبوني بطريقة أشمل من الضرب على لوحة المفاتيح. وقد بينت الدراسات حول الموضوع أن نشاطاً عصبونياً من هذا النوع في تلك المناطق الدماغية مهم في ما يخص الذاكرة وتسجيل معلومات جديدة، ما يوفر للدماغ أفضل الشروط في وضعية التعلّم.
وكذلك في المجال ذاته، أثبتت دراسة في جامعة ريتشموند في الولايات المتحدة، أن الجرذان التي تستخدم قوائمها لنبش الغذاء تتمتع بمعدلات هرمونية خاصة بالضغوط النفسية أكثر توازناً وهي أكثر قدرة على حل المشكلات مقارنة بالجرذان التي تتلقى غذاءها بدون بذل أي عناء. وهي نتائج تدل على أن الانخراط البدني في عمل معين، مهما كان بسيطاً، يساعد على تدني التوتر وتحسين القدرات المعرفية.
وعند البشر، لاحظ باحثون في جامعة طوكيو وآخرون في جامعة باكنغهام، أن النشاطات اليدوية كحياكة الصوف والبستنة أو التلوين، تنتج تحسناً في الذاكرة والانتباه وتدنياً في مستويات التوتر والقلق والاكتئاب. الحركات المتكررة والمهدئة التي ينخرط فيها الجسم تساعد على الاسترخاء والراحة.
نحن بحاجة إلى العودة للملموس
يتسم نمط حياتنا اليوم بحالة من إثارة مفرطة دائمة. والوقت الذي نمضيه أمام الشاشات يحتل الجزء الأكبر من أيامنا، سواء أكان في المجال المهني أم في المجال الشخصي. يؤثر هذا الواقع الرقمي في راحتنا بطريقة عميقة، وقد دخلت مفردات مثل زيادة الشحنة المعرفية والإنهاك العصبي؛ للتعريف بهذا الواقع المؤلف من مدٍّ دائم بالمعلومات التي تفوق قدرة دماغنا على معالجتها بفاعلية، ما يولد توتراً وتعباً ذهنياً في وقت واحد.
في هذا السياق، يمكن فهم الانجذاب المستجد نحو نشاطات تقدم ابتعاداً أو فك ارتباط عن وسائل الاتصال، كالتأمل أو النشاطات اليدوية، لتشكل نوعاً من علاج ضد الإنهاك العصبي. وعلى عكس الانتقال الذي لا يتوقف بين الأعمال والمهمات الرقمية، فإن هذه النشاطات تستلزم تركيزاً دقيقاً وانخراطاً جسدياً، أو على الأقل يدوياً، يوفر نوعاً من وقفة ذهنية. فإعادة التركيز على عمل واحد ملموس يصاحبه إحساس بإنجاز شيء محسوس ومرئي قد يفسر ازدهار هذا النوع من الأنشطة في أيامنا هذه.
اقرأ أيضاً: كيف تنقذ طفلك من الشاشات؟.. نصائح سهلة وفعالة