إنه قرار صعب جداً، حين تقرّر شابة متعلّمة أن تنصرف عن العمل المريح في المكاتب والمدارس، وتتفرّغ للفلاحة. ست فرنسيات يقدّمن في هذا التحقيق تجاربهنّ مع العيش في الطبيعة، وحسب فصولها، ومواقيتها، ومواسمها، والاهتمام برعي الخراف والماعز، وتربية الدجاج، والأبقار، والأرانب. وليس من المصادفة أنهنّ جميعاً، اتفقن على أن هذه الرغبة نشأت منذ الطفولة بفضل تربية حيوان أليف في البيت. إن ظاهرة المزارعات الشابات المتعلمات تبقى غريبة، وغير معروفة، والسبب هو ابتعاد تلك المناطق الزراعية عن الكاميرات، وبؤرة وسائل الإعلام.
أوسيان.. تربّي الأبقار وتدير مزرعة
الأولى تدعى أوسيان بالان، عمرها 21 عاماً، وتقيم في أعالي مقاطعة «ساوون»، شمال شرقي فرنسا، وهي تحب مشاركة تجربتها مع الآخرين، من خلال حسابها على موقع التواصل. هناك اليوم أكثر من 90 ألف متابع لها، تحكي لهم يومياً، عن يومياتها في المزرعة الواسعة، من دون أن ينسيها العمل الشاق ابتسامتها الواسعة التي جعلت منها واحدة من المؤثرات على «يوتيوب»، و«إنستغرام»، بإسلوبها المرح في رواية التفاصيل الذي جمع حولها كل هؤلاء الأصدقاء الافتراضيين.
تقول أوسيان «أبي فلاح، لكنني في المدرسة الثانوية كنت أخفي هذه الحقيقة عن زميلاتي، لأن آباءهن كانوا مدرّسين، أو تجاراً، أو صيادلة أو مهندسين. أما الذين عرفوا طبيعة عمل والدي فكانت موضع سخريتهن. درست في مدرسة للفندقة، وكنت أبحث في مواقع التواصل عن شابات يشتغلن فلاحات فلم أجد. وفي سن 13 عاماً، أطلقت أول حساب لي، وسرعان ما راح عدد المشتركين يتزايد». هذا النجاح شجع أوسيان على أن تشمر عن ساعديها، وتنزل لتدير مزرعة أبيها، بعد أن تعب، وقرر التقاعد. تبلغ مساحة المزرعة 250 هكتاراً (الهكتار 10 آلاف متر مربع)، وتقع في منطقة خصبة قريبة من الحدود مع ألمانيا، وهي تربّي اليوم 280 بقرة، ولديها عمال أُجراء يشتغلون تحت إدارتها.
تحاول أوسيان من خلال حسابها أن تشجع البنات على النزول إلى الحقول. فالنظرة القديمة ترى أن من المستحيل على المرأة مزاولة هذا النوع من الأعمال، لأنها شاقة جسدياً. أما هي فترى أن القضية ليست قوّة عضلات، فقد تطوّر العمل الزراعي بفضل المكائن والآلات الحديثة. إنها ليست مثل أبيها الذي كان يستخدم قوّة ساعده لإخراج المياه من البئر، لأن وسائل الري تطوّرت. كما أن حسّها الأنثوي يجعلها أكثر تفاهماً مع الأبقار، وأفضل إدارة لما يتصل بتربية المواشي، من تعليب، وصناعة للأجبان، وبقية منتجات الحليب.
ليست أوسيان نموذجاً فريداً، فهناك اليوم مئات الشابات اللواتي حققن ثورة حقيقية في المجتمعات الريفية والزراعية التي اشتهرت بانغلاقها، وانعزالها عن التجمعات المدنية. ولهذا، فإن النساء يخضعن لتقاليد واعتبارات تُعد متخلفة بالقياس لما وصلت إليه المرأة الفرنسية من حقوق. فالقانون شيء، والواقع شيء. والمرأة الريفية تساعد زوجها في عمله اليومي، لكنها لا تتقاضى مرتباً مهما خصصت من ساعات لذلك العمل. ومن الأمور المسكوت عنها في فرنسا، انتشار جرائم زنى المحارم في الأرياف البعيدة، بسبب الحرمان، وضيق العلاقات الاجتماعية، أو انعدامها. وبسبب تلك العزلة فإن الشباب يفضلون الهجرة إلى مراكز المدن، حيث يدرسون، ويتزوجون، ويؤسسون حياتهم خارج الحياة الزراعية.
مايتيه.. راعية المعز والخرفان
في الهضاب الرائعة لمنطقة «آرديش» جنوب فرنسا، تقيم مايتيه برومب، حيث تربّي بمفردها قطيعاً يضم 300 من المعز. ورغم أنها تقترب من الأربعين فإن عمرها لا يحبطها، بل أضافت إلى قطيعها 200 خروف، خلال الصيف الماضي. لقد أحبت الحيوانات منذ طفولتها، وكانت تحلم بالعمل راعية تسرح ما بين التلال والوديان، لكن تحقيق الحلم لم يأت بضربة من عصا ساحر. ففي بداية ممارستها العمل كانت تشتغل لحساب مزارعين آخرين، وقد تعرّضت للظلم في تقدير أجرتها، باعتبارها امرأة لا تستحق المرتب الذي يناله الرجل. وكم عانت من النظرة الذكورية والسخرية لاختيارها منافسة الرجال، وكانت النتيجة أنها أسست جمعية للدفاع عن النساء الراعيات، والفلاحات، ومربيّات المواشي، ولتحسّن ظروف عملهن، ومحاربة استغلالهن. ونظمت للنساء دورات في الدفاع عن النفس، ووضعت تحت تصرفهنّ رقماً هاتفياً للطوارئ، ولطلب النجدة عند الحاجة. وبفضل الجمعية كسرت الراعيات حاجز الصمت، ولم يعُدن خائفات من المطالبة بحقوقهن. وكانت مايتيه تقيم الندوات، وتحضر المؤتمرات لشرح قضايا هذه الفئة من النساء.
وحسب دراسة حكومية حديثة، فإن أعداد النساء الراعيات الشابات دون سن الخامسة والثلاثين، أصبحت مساوية لعدد الرعاة. لكن 83 في المئة منهنّ يعانين هضم حقوقهنّ، وعدم المساواة مع زملائهن في الأجور. وفي السنوات الأخيرة، جرى الاعتراف قانونياً، بجهود المرأة الفلّاحة في فرنسا. وقبل ذلك كان عملها في الحقل من الفجر حتى غياب الشمس يعتبر ملحقاً بعمل زوجها، وليس من حقها تقاضي أجر، أو مرتب تقاعدي. وبفضل جهود الجمعية التي أسّستها مايتيه، فقد حصلت المرأة المزارعة على إجازة لمدة أسبوعين عند الولادة.
ناومي.. تدير مزرعة كروم
في القصر الريفي المسمّى «سان فرديناند»، في منطقة «جيروند»، جنوب غربي فرنسا، استقرت ناومي تانو، منذ 4 سنوات، وتبلغ من العمر 35 عاماً. أبوها ميكانيكي، وأمّها ممرضة. ولم يكن في نشأتها ما يشير إلى هذا المصير. أي أن تدير مزرعة للكروم، وتؤسس كهفاً للمشروبات. لقد درست الهندسة الزراعية، وقررت الاستفادة من خبرتها في العيش وسط الطبيعة، وترك العمل في شركات الأغذية، والتعليب. وخلال دراستها، تزوجت وأنجبت ابنتين. وهي اليوم من الملتحقات بركب المنتجات الطبيعية الخالية من التسميد الصناعي، والكيمياويات. وحتى القناني التي تضع فيها المشروبات فإنها من دون أغطية وكبسولات ضارة تقاوم التحلل في الطبيعة. وتقول إنها تزرع الحبوب صفاً بين كل صفين في الأرض لتجديد حيوية التربة، ومدّها بالسماد الطبيعي.
وبسبب التزامها الزراعة الطبيعية، ورفضها استخدام المبيدات، تتعرّض ناومي، أحياناً، لخسارة مادية. حيث تصيب الأمراض كرومها، فلا تعطي الكميّات المتوقعة من الأعناب. إنها تفضل التضحية بالمكسب على التضحية بصحة زبائنها. ولهذا اختار ملك بريطانيا، تشارلز الثالث، زيارة مزرعتها حين حلّ ضيفاً على فرنسا، مع قرينته الملكة كاميلا.
ناتالي.. صاحبة مزرعة «حدائق سيمون»
في منطقة «النورماندي» الساحرة، شمال غربي فرنسا، ترعى ناتالي أيكن، مزرعة سمّتها «حدائق سيمون». وناتالي كانت في السابق مديرة لصفائح المعادن، وانتظرت حتى بلوغها من العمر 50 عاماً، قبل أن تتحول في عام 2019 إلى العمل الزراعي. وهي تملك اليوم 7 هكتارات تزرعها بالذرة، وبأكثر من 50 نوعاً من الخضار، والأزهار، والأعشاب العطرية: شومر، وأبو خنجر، وبابونج، ولسان الثور. لقد علّمت ناتالي نفسها بنفسها، وهي تتباهى بأن مزرعتها تنسجم مع الطبيعة مثل التناغم في الموسيقى. وقد عثرت على علاج لكل مشكلة، وداء. تحارب الآفات الزراعية بمواد طبيعية، كأن الأرض تحمي نفسها بنفسها، أيضاً. وهناك مشكلة الأعشاب الطفيلية التي تنتشر بين المزروعات، وهي تقتلعها باليد، أو بآلة ميكانيكية.
وتتباهى ناتالي أيضاً، بأن منتوجاتها هي من طبقة «الخياطة الراقية»، مثل إبداعات كبار مصممي الموضة. ولهذا فإن من بين زبائنها كبار الطهاة، وأصحاب المطاعم الشهيرة في مقاطعة «النورماندي». إنهم يقدمون أطباقاً جاءت مفرداتها من الأرض طازجة، ومن دون تخزين، إضافة إلى أنها تبيع منتجاتها للأفراد عبر الأسواق، أو أنهم يقصدون مزرعتها للتسوّق مباشرة. لكن العمل الزراعي ليس ورديّاً دائماً، بل يحتاج إلى جهد شاق، واستعانة بعمال موسمّيين، أو دائمين. وبسبب منافسة المنتجات الآتية من إسبانيا، أو المغرب، فإن ما يتبقى لناتالي يسمح لها بمعيشة على الكفاف. والمهم أنها سعيدة بهذا النمط من النشاط.
آن سيسيل.. من جامعة هارفارد إلى فلاحة
واحدة من الفلاحات العنيدات هي آن سيسيل سوزن. ويمكن اعتبارها الناطقة بلسان زميلاتها. وهي تقول: «نحن نرفع الجبال لكي نغيّر من نمط التقاليد الزراعية». وقد وضعت كتاباً بعنوان «الأخاديد التي نحفرها»، تشرح فيه العلاقة المعقدة بين المزارع، وبين متاجر التوزيع، وبيع المنتجات الزراعية، كالخضار، والألبان، واللحوم، والدواجن، والبيض. كانت آن سيسيل تبلغ من العمر 20 عاماً، وطالبة في جامعة هارفارد الأمريكية العريقة عندما بلغها خبر وفاة والدها المزارع. وكان لابدّ لها من التوقف، والعودة لإدارة مزرعة العائلة، وتقول: «كان يمكن التعامل بسهولة مع البنوك لو جئتها أطلب قرضاً ومعي شهادة إدارة أعمال من جامعة عريقة. لكنهم يتردّدون حين أقصدهم أطلب قرضاً لمزرعة تديرها امرأة. لقد عاملوني باعتباري حمقاء». إنها اليوم مربية مواشٍ تملك 240 رأس غنم في مزرعتها، بمنطقة «أورن»، شمال فرنسا، وواحدة من المدافعات عن النساء العاملات في المهنة، بل وتسعى لـ«تأنيث» المهنة.
تدرك آن سيسيل أن المرأة لا تستطيع إدارة مزرعة بشكل كامل، إلا بعد بلوغ سن الأربعين. لابد أولاً من تربية الأبناء معتمدة على وظيفة مستقرة، ومرتب ثابت، قبل أن تغامر بخوض مجال تتذبدب فيه العائدات، حسب المواسم. ولهذا، فإنها تناضل من أجل معونات عملية للفلاحات الأمّهات، ومراكز حضانة تسمح لهنّ بتخصيص وقت للعمل الزراعي، وقد أعدّت دراسة بهذا الخصوص وقدمتها إلى وزيرة حقوق المرأة، وتنتظر الجواب.
ناومي كاليه.. مربية المواشي
تحمل ناومي كاليه شهادة من معهد باريس العريق للعلوم السياسية الذي تخرجت فيه بتقدير مشرف. وبعد التخرج عملت في مؤسسات في لندن، وهونغ كونغ، لكنها عادت إلى مقاعد الدراسة لتتخصص في تربية المواشي في منطقة «جيرس»، إلى الجنوب الغربي من البلاد. وقد شرحت مغامرتها في كتاب وضعته بمساعدة الصحفي النباتي، كليمان أوزيه، بعنوان «نداء من مربية مواش»، وتوضح في كتابها تفاصيل حياتها اليومية كمزارعة، وتحضر معارض الكتب في القرى للحديث عن تجربتها. وتقول إن المشكلة الكبرى هي في العثور على أغذية طبيعية للمواشي، أي الحبوب غير المسمّدة، وهي غير مرغوبة لأنها لا تؤدي إلى نمو ماشية سمينة من التي يرغبها التجار. مع هذا، فإنها مؤمنة بوجود حلّ وسط بين العلف النظيف والكيمياوي.
وفي كل محفل تحضره ناومي كاليه، تبشر بنوع جديد من الزراعة وتربية الحيوان، وهي تعتبر نفسها تنتمي إلى جيل حديث من المزارعين الذين لا يشتغلون لمجرد الربح، بل لتطوير المهنة، والتطلع لسلامة المستهلك. وقد شكلت مع زملائها تعاونية تضم 7 مزارعين يشتغلون في مزرعة واحدة، لتحقيق الهدف الذي يسعون إليه، وهم يحرصون على جودة الإنتاج، ويراقبون حتى نوعية المياه التي يستخدمونها في السقي. هل هو حلم يتخلون عنه عندما يتعبون، ويحتاجون إلى موارد تكفي لإعالة بيوتهم؟ الجواب لدى الجهات الحكومية في فرنسا التي ينبغي عليها دعم هذا النوع من المبادرات.