20 فبراير 2025

السويس.. أقدم المدن المصرية وأميرة الموانئ

محرر متعاون - مكتب القاهرة

مجلة كل الأسرة

تغفو مدينة السويس وتصحو، كل صباح، على كتف الخليج الذي يحمل اسمها، لتروي للعابرين من كل سحنة ولون، حكايات عن تاريخ عريق، وكيف لوّنه ساكنوها الذين نزحوا إليها، فرادى وجماعات، من كل ربوع مصر عبر العصور، ليسطّروا تلك الملحمة الإنسانية الفريدة، ويجعلوا منها واحدة من أهم المدن والموانئ المصرية على ساحل البحر الأحمر.

مجلة كل الأسرة

تضرب مدينة السويس بجذورها في عمق التاريخ، منذ أن انسحبت مياه الخليج الذي يحمل اسمها نحو الجنوب، لتنشئ ميناءها العجيب، وتلك المدينة الساحرة التي أطلق عليها الرومان اسم «كليزما»، قبل أن يحرف العرب اسمها في عصور تالية إلى «القلزم». وتحتفظ تلك المدينة العريقة بالعديد من الحكايات المدهشة، عن قادة، وجيوش، ومغامرين، وتجار، وحجاج، وأولياء، وفدوا من بلادهم البعيدة، قبل أن تستقر أرواحهم وأجسادهم بين جنباتها، وهي الحكايات التي لا تزال حاضرة في وجدان العديد من الأجيال، الذين يحفظونها عن ظهر قلب، ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

تخترق السفن العملاقة قناة السويس، فتقسم مدينة السويس إلى نصفين، الأول الذي يضم المدينة القديمة التي يرجع تاريخها، حسب كثير من الدراسات التاريخية، إلى العصور الفرعونية الأولى، والثاني الذي يضم تابعتها الصغيرة مدينة بور توفيق، على الجانب الشرقي للقناة، وهي المدينة التي تعد حديثة نسبياً، إذ يرجع تاريخ إنشائها إلى عهد الخديوي توفيق، الذي عمل على ردم مساحة كبيرة من مياه الخليج عند تلك المنطقة، ما أدى لارتفاعها عن سطح البحر كيابس جاف، قبل أن يأمر بإنشاء تلك المدينة الصغيرة التي تحمل اسمه، والتي تربط بينها وبين المدينة القديمة مجموعة من المعدّيات التي تعبر القناة يومياً، لتنقل الناس والسيارات إلى الضفة الأخرى.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

تتميز مدينة بور توفيق الصغيرة، بعمارتها فرنسية الطابع، وهي تشبه إلى حد كبير نظيرتها في بورسعيد التي تحمل اسم الملك فؤاد الأول، وقد أنشئت أثناء حفر قناة السويس، مثلما تشبه أيضاً حي الإفرنج في مدينة الإسماعيلية، بطرزه المعمارية فرنسية الطابع، لكن كل هذا الجمال لا يضاهي تاريخ المدينة القديمة التي تحتضن القناة، من جهة، وخليج السويس من الجهة الأخرى، وتضرب بجذورها في عمق التاريخ المصري، بل وحظيت بمكانة خاصة، لكونها عاصمة الإقليم الثامن من أقاليم الوجه البحري، إبان حكم الأسرتين التاسعة عشرة، والثانية والعشرين. وقد دفع موقعها الفريد إلى اهتمام الحكام بها، على مر العصور، فأطلق عليها بطليموس الثاني اسم أرسينوي، إجلالاً لزوجته أرسينوي الثانية، التي قامت بدور كبير في توجيه سياسة الدولة، قبل أن يتحول اسمها إلى كليوباترا، في أواخر عصر البطالمة، لكن التسمية الجديدة لم تلبث أن زالت، لتستعيد المدينة اسمها القديم.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

ترجع تسمية تلك المدينة المصرية القابعة على شاطئ الخليج، إلى خمارويه بن أحمد بن طولون الذي أمره بإلغاء أسمائها القديمة، وأطلق عليها السويس اسم بدلاً من القلزم، وعلى نهجه سار الفاطميون، عندما أطلقوا الاسم ذاته على تلك القرية الصغيرة التي كانت تقع جنوبي مدينة القلزم. وما إن جاء القرن الثالث عشر حتى كانت قرية السويس قد طغت على القلزم، وحلت محلها على شاطئ خليج السويس عند آخر نقطة وصل إليها البحر في انحساره، وأطلق اسمها على الخليج الذي تقع على طرفه.

مجلة كل الأسرة

ظلت مدينة السويس على مرّ العصور تمثل مصدر جذب للعديد من المصريين، والعرب، بما تمتلكه من تميز جغرافي، وتاريخي، واقتصادي، فقد كانت تستقبل طوال العام سفناً مختلفة الأحجام والحمولات، في وقت كانت عمليات الشحن والتفريغ تتم فيه يدوياً، وقد كان ذلك، حسبما يقول الدكتور حمدي سليمان، أستاذ الدراسات الشعبية، سبباً في بقاء سفن البضائع لفترات طويلة في ميناء السويس، ما لعب دوراً كبيراً في تشكيل ثقافة المدينة ،وانعكس بصورة أكبر على تراثها الحديث.

مجلة كل الأسرة

كان طاقم السفن في تلك الفترة يتكون من نحو ثلاثين بحاراً، وكان لكل سفينة مغرد يطلقون عليه لقب «نهّام السفينة»، وهو المغنّي الذي كان يقوم بالترفيه عن الطاقم طوال الرحلة، ويشحن عزيمتهم ،أثناء عمليات الشحن، والتفريغ، فلم تكن تخلو سفينة من «النهام» الذي كان يحظى بالاحترام بين أفراد الطاقم. وقد كان العمال من أبناء السويس يدعون نهامي السفن ليشاركوهم أفراحهم، وليالي السمر، طوال فترة إقامة السفينة في الميناء، وقد انعكس ذلك، حسبما يقول سليمان، على ما يعرف بحفلات «الضمة والسمسمية»، التي تميز منطقة القناة، وفي القلب منها مدينة السويس، التي كانت أيضاً محطة هامة للحجاج والمعتمرين القادمين من دول إفريقيا إلى الجزيرة العربية.

مجلة كل الأسرة

لم تفقد السويس على طول التاريخ المعاصر شهرتها العالمية، بل إنها ارتبطت بالعديد من الأحداث السياسية الكبرى في القرن الماضي، ومن بينها العدوان الثلاثي الذي تعرضت له مصر في عام 1956، على الرغم من أن الحرب التي اشتعلت في مدينة بورسعيد على شاطئ المتوسط، كانت بعيدة عن السويس، إلا أن تلك الحرب عرفت في الأدبيات السياسية باسم حرب السويس، التي سجلت تالياً، ملحمة كبرى في مواجهة العدوان الإسرائيلي في عام 1973، عندما صمدت أمام محاولات حصار واحتلال المدينة، فدارت في شوارعها، وعلى تخومها، معارك شرسة، قدم خلالها أبطال المقاومة الشعبية ملحمة عظيمة يشهد لها التاريخ، بعدما نجحوا في صد العدوان، وهزيمة القوات الغازية.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

تحتضن سلاسل جبال البحر الأحمر المهيبة المتاخمة للبحر الأحمر مدينة السويس في حنوّ بالغ، فتشكل خلفية طبيعية ساحرة، تتجلى بوضوح في منطقة العين السخنة السياحية التي تضم عشرات الفنادق، والمنتجعات، وتوفر للزائر فرصة ذهبية للاستمتاع بمياه البحر الأحمر، وما يضمه من شعب مرجانية فريدة، فيما يبدو جبل عتاقة في الأفق، مثل حارس عجوز، ويقال إن اسمه جاء من اسم «اتيكا» الذي ورد ذكره في بردية هاريس الفرعونية الشهيرة، وهي البردية التي تتصدر واجهة زجاجية في متحف السويس القومي، الذي يضم العديد من المقتنيات النادرة التي تروي تاريخ المدينة على مرّ العصور، ويحكي قصة قناة السويس على مدار التاريخ، والتي ترجع فكرة حفرها إلى الدولة المصرية القديمة، منذ أكثر من 4 آلاف عام. وقد تم افتتاح هذا المتحف في عام 2012، بعد انهيار المتحف القديم أثناء حرب 1967، ويضم نحو 2500 قطعة أثرية عريقة، إلى جانب العديد من التماثيل القديمة، وقاعات تحكي تاريخ الملاحة البحرية عبر العصور.

مجلة كل الأسرة
مجلة كل الأسرة

تحترف الأغلبية العظمي من أبناء السويس مهنة الصيد، إلى جانب العمل في شركات البترول المنتشرة على تخوم المدينة، ويعد كورنيش السويس أحد أبرز المزارات التي يحرص على زيارتها كل من يذهب إلى السويس، حيث يوفر الممشى، الذي يتصدّره تمثال لنمر بنغالي ضخم، إطلالة ساحرة على بوغاز القناة، ويتميز بمساحاته الخضراء الواسعة، وما يضمه من كافيهات ومطاعم يمكن للزائر من خلالها الاستمتاع بالوجبات الشعبية التي تميز المدينة، والتي يُعد المحار أحد مكوناتها الأساسية، إذ لا يوجد شارع في السويس إلا ويوجد فيه العديد من المطاعم التي تقدم وجبات المحار، والاستريديا، والاسترومباء، واللوجز، وجميعها من فصائل المحار. ولا تكتمل زيارة السويس إلا بزيارة بيت المساجيري، وهو بيت اثري قديم، جرى فيه تصوير جانب من أشهر أفلام السينما المصرية في الخمسينيات، وهو فيلم «ابن حميدو» للراحل إسماعيل ياسين، ويُعد بيت المساجيري من أقدم المباني في منطقة القناة، إذ يرجع تاريخ بناؤه إلى عصر محمد سعيد باشا عام 1862، وقد كان مخصصاً لتلقي البريد السريع، وأن يكون مقراً لنقل الرسائل، والأفراد، والبضائع، من الشرق الأقصى لأوروبا، قبل حفر قناة السويس.

اقرأ أيضاً: شواطئ حماطة المصرية.. متعة الخصوصية على أجمل شواطئ البحر الأحمر

* تصوير: أحمد شاكر