
أثبتت الكثير من الدراسات النفسية وجود علاقة وثيقة بين روحانيات شهر رمضان وعلاج بعض الأمراض النفسية، أو على الأقل الحد من شدّتها، وتحقيق قدر من الاستقرار النفسي لصاحبها، حتى أن بعض الأطباء يلجأون إلى الصيام كوسيلة مساعدة على علاجها.
حيث يمثل شهر رمضان فرصة جيدة للكثير من الأشخاص، من أجل التخلي عن بعض العادات السيئة التي تصيبهم بالتوتر، والغضب، لأن الصيام يحسّن من الصحة النفسية للإنسان من خلال تحسين مستويات الإدراك لديه، والامتناع عن الطعام خلال ساعات يوم الصوم، يعزز صحة الدماغ، ما ينعكس بشكل إيجابي على طريقة التفكير.
سألت «كل الأسرة» عدداً من خبراء الصحة النفسية وتعديل السلوك بالقاهرة، حول تأثير الصيام في تحسين الحالة المزاجية للصائمين، ومدى فاعليته في علاج بعض الأمراض النفسية، أو التقليل من وطأتها، وكيف يمكن للشخص الاستفادة من روحانيات رمضان في التخلص من التوتر والغضب والاكتئاب:

فوائد الصيام للصحة النفسية للصائمين
في البداية، يؤكد الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، حقيقة التأثيرات الإيجابية للصيام في الحالة المزاجية، والعزوف عن العادات السيئة، بخاصة أن الناس يبدأون رمضان ولديهم العزيمة والنية الصادقة على إحداث تغييرات إيجابية في عاداتهم وسلوكاتهم، ويقول «فرض الله علينا الصيام لحكمة إلهية واضحة، وهي تهذيب النفس، وتدريبها على الصبر، وقوّة الإرادة، وهذا الأمر عندما يتحقق يكون له دور كبير في تحسين السلوك، وضبط النفس. فقد أثبتت الدراسات النفسية أن الصيام يحسن المزاج ويقلل من القلق والاكتئاب، ويحدّ من الإجهاد، على عكس ما هو شائع من الربط بين رمضان، ومظاهر العصبية والانفعال».
ويشير الدكتور محمد المهدي إلى عدة فوائد للصيام في تحسين حالة الجهاز العصبي، منها:
1. يحفز الصيام وظائف المخ، ويزيد من إنتاجيتها لهرمونات تحسين المزاج، مثل الدوبامين والسيروتونين، ويعزز من صحة الجهاز العصبي.
2. الصيام يعمل على تجديد الخلايا العصبية وإنتاج خلايا جديدة، ويعمل على تحسين الذاكرة، ويضع العقل على المسار الصحيح من أجل التركيز والإنجاز، بدلاً من الإلهاء، والكسل الذي ينتج عن تناول كميات كبيرة من الطعام تعمل على رفع مستوى السكّر في الدم، طوال النهار والليل.
3. يحسن الصيام من حالة مريض الزهايمر، ويقلل من فرص حدوث المرض وتطوّره، حيث يعمل على تجديد خلايا المخ، وتحسين عمل النواقل العصبية، إضافة إلى تحسين الإدراك والذاكرة، ما يحد من تطور حالة الزهايمر، والشيخوخة.
4. يعمل الصيام على تحسين جودة النوم، بخاصة أنه يقلل من اضطرابات الجهاز الهضمي، وارتجاع المريء، والقولون العصبي، وكل هذه المشاكل التي تلعب دوراً في اضطرابات المزاج، والنوم.
5. في حالة تنظيم الوجبات، واتّباع نظام غذائي صحي، وتقليل تناول الكافيين والسكّريات، في ساعات الإفطار، يكون للصيام تأثير إيجابي جداً في التخفيف من الإجهاد والتوتر، وبهذا ينجح كوسيلة فعالة للعلاج النفسي، بخاصة في أمراض مثل الاكتئاب، والقلق.

عادات سلبية يفعلها الصائمون وتؤثر سلباً في صحتهم النفسية
أما الدكتورة منى أحمد البصيلي، استشاري الطب النفسي وتعديل السلوك والإرشاد الأسري في القاهرة، فترى أن بعض الأمراض النفسية لها مواسم ومناسبات، حيث قد تزيد الأعراض، أو تقل، في أوقات معيّنة من السنة، أو مواقف محدّدة، والمرضى وذووهم يلاحظون ذلك.
وتوضح «في هذا الشهر الفضيل، على عكس الكثير من الأمراض النفسية، يعاني مرضى الوسواس القهري بشدّة. ففي موسم زيادة العبادة ينشط الوسواس، بخاصة وسواس الوضوء، والصلاة، والصوم، والطهارة، والنية، والأفكار الدينية، وغيرها، لذا ننصح المرضى الذي لم يبدؤوا علاجهم، بالبدء به قبل أن يشتد عليهم في رمضان، ويزداد الغمّ عليهم بدلاً من الفرحة بالشهر. ومن بدأ العلاج فعليه أن يلتزم به، ويراجع طبيبه أو معالجه، إذا كان لم يصل بعد للتحسن المطلوب».
وتلفت الاستشارية النفسية منى البصيلي، إلى أن المريض بالوسواس القهري الديني تكون لديه معاناة شديدة، خصوصاً في شهر رمضان، وتحدد مجموعة من الأسباب تجعل معاناة المريض النفسي أشدّ في رمضان، وتؤدي إلى تدهور حالته:
1. عندما يضع الشخص المريض لنفسه أهدافاً (تارجت)، يجب أن يحققها في رمضان، ويسعى دائما للكمال في الصيام، والصلاة، وقراءة القرآن، وعندما يفشل في تحقيقه يزداد القلق والتوتر لديه.
2. الخوف المتكرر من عدم إتمام أركان الصلاة بشكل جيد والشك الدائم والمستمر في الطهارة و الوضوء الصحيح.
3. إيمان الشخص بأنه غير جدير بالمغفرة والرحمة، وغيرها من الأفكار المتكررة التي تشكك الشخص في حقيقة إيمانه.
4. كذلك الأشخاص الذين حدثت لهم حوادث شديدة في رمضان، بخاصة الوفاة، (أبي توفي في رمضان، كان يجلس معنا في الإفطار، يخرج معي إلى التراويح...)، يعاني بعض هؤلاء الأشخاص بشكل كبير حزنَ الفقد، واجترار الذكريات التي تقلّب عليهم المواجع.
5. عادة ما يساعد الصيام على تحسين جودة النوم، ولكن بسبب السهر والاستيقاظ متأخراً، تضطرب الساعة البيولوجية، ما يؤدي إلى معاناة من نقص النوم والنعاس، وتعكّر المزاج.
6. الراحة النفسية نعمة تأتي بالعبادة والتقرب من الله، لكن عندما يحضر المرض النفسي فكثيراً ما يكون عائقاً أمام الإنسان في العبادة، والشعور بطمأنينة الإيمان، وحلاوته.

نصائح نفسية للاستفادة من روحانيات الصيام
يمكن مواجهة الضغوط الحياتية بسهولة خلال شهر رمضان، ويمكن للأجواء الروحانية في رمضان أن تعمل على تعزيز الصحة النفسية...
وفي هذا الإطار، تقدم الدكتورة مي عيسى، أستاذة الطب النفسي والمخ والأعصاب بالقاهرة، بعض النصائح لمساعدة الصائمين على الاستفادة من الشهر الفضيل، لتحسين صحتهم النفسية:
- يجب أن نحرص على لمّ شمل العائلة، وصِلة الرحم، والتواصل مع الأقارب والأصدقاء، لأن ذلك بخلاف كونه واجباً دينياً، فهو يحسّن من نفسية الشخص إلى حد كبير، فيشعر بالاطمئنان، والراحة، والأمان النفسي.
- مائدة الإفطار وما فيها من دفء أسري، ومشاركة الأهل وجبات الفطور والسحور، يعزز من الصحة النفسية، ويحسن المزاج، ويزيد من العواطف الإيجابية.
- الصوم، والأجواء الخاصة به خلال الشهر الفضيل، تقلل من المشاعر السلبية، وتمنح الإنسان الفرصة للتفكير في الذات، وتقلل من الاكتئاب، وتعزز السلوكات الجيدة.
- يجب تناول الأطعمة المفيدة التي لا ترفع من معدلات الأنسولين، والحرص على تناول ما يتناسب مع حالتنا الصحية لتجنب انخفاض، أو ارتفاع السكّر أثناء الصيام، وما يسببه من توتر، وعصبية.
- تجنب السهر، والنوم لمدة كافية لا تقل عن 6 ساعات، حتى لا تستهلك طاقتك بالكامل، وتشعر بالتعب، والإرهاق، ما يؤثر في الحالة النفسية، ويشعرك بالفشل والإحباط.
- تناول كميات كافية من الماء بما لا يقل عن لترين ماء، خلال ساعات الإفطار، لتجنب التأثيرات العصبية السيئة للجفاف.
- المرضى الذين يتناولون علاجات دوائية يجب أن يستمروا على الدواء، ولا يتوقفوا عن تناوله، ويغيّروا الخطة العلاجية فقط، مع مراقبة الأعراض الجانبية للصيام عليهم، فإذا ما كان التأثير سلبياً ينبغي التوقف عن الصيام فوراً، وتناول الدواء والطعام اللازمين.
- تنظيم الوقت في رمضان، وإعداد جدول يومي يساعدنا على تحقيق الاستفادة القصوى من الطاقة الروحانية للصوم.
- رمضان فرصة ذهبية للتسامح، والعفو عن الآخرين، والتوبة، وكذلك فتح صفحة جديدة مع الله، ومع النفس، فهجر الذنوب في رمضان يشعر المؤمن بحلاوة الإيمان، ويقرّبه إلى المولى عز وجل.
- ومن الأشياء التي تساعد الشخص على اغتنام رمضان نفسياً، لتجديد الطاقة الروحانية، تخصيص ركن للعبادة في جانب من جوانب غرف البيت، بشكل مريح، لقراءة القرآن، والصلاة الجماعية، والدعاء، ففي هذا المكان ستشعر بالسلام الداخلي، وسيكون ملجأك دائماً عندما يضيق صدرك.

أمراض نفسية وعقلية تمنع أصحابها من الصيام
وحول قائمة الأمراض النفسية التي تمنع أصحابها من صيام رمضان، فتحدّدها الدكتورة مي عيسى :
1. مريض الهوَس الذي يجب أن يتناول الدواء عدة مرات خلال اليوم وفي مواعيد منتظمة.
2. مريض الزهايمر، في حالة متقدمة.
3. مريض الفصام، في حالة حادة والذي لا يمكن توفيق العلاج مع الصيام.
4. مريض الوسواس القهري والاكتئاب، بخاصة إذا أدّى الصيام إلى تفاقم الحالة لديه.
5. مريض الصرع من الدرجة المزمنة، والذي تتكرر معه النوبات عدة مرات، ويحتاج إلى تناول العلاج بانتظام.
اقرأ أيضاً: بين الواجبات والضغوط الاجتماعية.. كيف للمرأة أن تعيش رمضان بروحانية وسلام؟