جوهرة التاج بين القصور الملكية.. «قصر عابدين» أيقونة مصر الخديوية وبوابة التاريخ



يصنف قصر عابدين باعتباره جوهرة التاج بين القصور الخديوية التي شيّدت في مصر خلال القرن التاسع عشر، إذ شهد القصر العديد من الأحداث الهامة التي أسهمت في قيام مصر كدولة مستقلة، مثلما شهد منذ نشأته عام 1863 وحتى قيام ثورة يوليو عام 1952، العديد من الأحداث الاجتماعية والسياسية الحافلة التي غيّرت وجه مصر في القرن العشرين.


ويرجع كثير من المؤرخين تاريخ بناء قصر عابدين إلى نهايات القرن الثامن عشر، وقد بُني على أطلال منزل قديم كان يملكه «عابدين بك»، وكان أحد الأمراء الأتراك الذين شغلوا عدداً من الوظائف العامة الكبرى في مصر، وقد كان عابدين بك يشغل وظيفة أمير اللواء السلطاني، وقد أعجب الخديوي بالمكان الذي شيد فيه قصره فاشتراه منه، ليشرع في هدمه وبناء قصر منيف على أطلال القصر القديم، بعد ردم عدة برك كانت تحيط به، وشراء عدد من المباني التي شغلها خدم القصر القديم، وكانت ملاصقة للقصر. وقد دأب الخديوي إسماعيل، لعدة سنوات، على شراء الأملاك المجاورة للقصر، حتى وصلت مساحة الأرض المحيطة به إلى 25 فداناً تقريباً، حسبما تشير حجة ملكية القصر، قبل أن يعهد ببنائه إلى البارون «هاوسمان»، وقد كان هو الرأس المخطط لتطوير وإعادة بناء مدينة باريس.


تعرّف الخديوي إسماعيل إلى هاوسمان أثناء زيارته إلى فرنسا بدعوة من إمبراطور فرنسا، نابليون الثالث في عام 1867، لحضور المعرض العالمي الذي أقيم وقتها في العاصمة باريس، وقد كلف البارون هاوسمان باستقبال الخديوي، فاصطحبه في نزهات وجولات في أنحاء المدينة الأوروبية، حيث أعجب إسماعيل بشوارعها الفسيحة، ومتنزهاتها، وحدائقها المنسقة، ومبانيها الجديدة بطرزها المختلفة، فأدرك وقتها أن عاصمته لابدّ أن تواكب باقي العواصم في التطوير والتقدم.


أوكل إسماعيل إلى هاوسمان مهمة بناء قصر منيف في منطقة عابدين، ليكون مقراً للحكم، ويستقبل فيه زعماء وملوك العالم، وقد كان مقرّراً أن ينتهي بناء القصر قبل الاحتفال الكبير لقناة السويس، ليكون مقراً لسكن عدد كبير من الأباطرة، وملوك وأمراء العالم، لكن هاوسمان لم ينجح في بناء القصر في الموعد المحدّد، فقرر الخديوي إسماعيل أن تحل الإمبراطورة «أوجيني» ضيفة على مصر في فيلا عمر الخيام، التي تحولت تاليا إلى فندق شهير على نيل القاهرة.


يتميّز قصر عابدين دون غيره من القصور الخديوية التي أنشئت في مصر خلال تلك الفترة، بطرازه النيوكلاسيكي الفرنسي، وقد أسندت مهمة بنائه بعد فشل هاوسمان، إلى المهندس الفرنسي ليون روسو، الذي استعان بعدد كبير من المعماريين والفنانين والمهندسين من مصر، وفرنسا، وإنجلترا، وإيطاليا، وتركيا.

وقد بُني القصر من طابقين، حيث يشتمل الطابق العلوي على جناح يطلق عليه السلاملك، وهو الجناح المخصص للاستقبالات، والاحتفالات، والمقابلات الرسمية، ويضم الجناح قاعة أطلق عليها قاعة قناة السويس، تتميّز بصالوناتها الفاخرة، بألوانها المختلفة، إلى جانب قاعة للاجتماعات، وهي تجاور قاعة أخرى أطلق عليها اسم قاعة محمد علي، فضلاً عن قاعة طعام رئيسية، تفضي إلى المسرح الملكي، وقاعة العرش التي تواجه صالون الخديوي إسماعيل.

ويجاور جناح السلاملك جناح آخر خصص لإقامة العائلة الخديوية، وهو جناح الحرملك الذي يضم أجنحة الإقامة، إلى جانب قاعة صممت على الطراز البيزنطي، وقاعة صغيرة للطعام، فيما يتضمن الطابق الأرضي بهو الاستقبال الرئيسي، ومكاتب التشريفات، بينما احتلت المطابخ مبني مجاوراً، لتجنب الروائح غير المرغوب فيها أثناء وجود ضيوف بالقصر، الذي يضم عدداً من الأفنية بمداخل عدّة، من أبرزها باب باريس الواقع في الجهة الشرقية، إلى جانب مدخل على الواجهة الرئيسية صنع من الحديد الفيرفورجية، ويحمل الحرف الأول من اسم الخديوي إسماعيل مطليّاً بالذهب.
ضم القصر عند إنشائه قرابة 550 غرفة وقاعة، بخلاف الممرّات، وقد أضاف الملك فؤاد الأول العديد من الأجزاء الهامة إليه، مستعينا على ذلك بمهندس إيطالي يدعي «فيروتشي»، فأضاف إلى البناء المنيف كشكاً للشاي، وآخر للموسيقى، داخل حديقة القصر، إلى جانب بناء مسجد صغير خصص له مدخلان، أحدهما من داخل حديقة القصر، والآخر من شارع عابدين. وقد شملت عمليات التوسعة أيضاً جناح السلاملك، وقاعة العرش، وإنشاء جناح خاص للملكة «نازلي» زوجة فؤاد، ووالدة الملك فاروق، وقد اعتمد «فيروتشي» في عمليات التطوير على تحديث الأثاث الذي صنعه الفنان الفرنسي فرانسوا لينك، وأمدّ القصر بأكثر من 1200 قطعة أثاث متنوعة.


شهد قصر عابدين العديد من الأحداث الهامة، حيث عقد فيه قران بعض أبناء الخديوي إسماعيل، قبل أن يشهد في عام 1879 الحدث الأكبر، والممثل في فرمان عزل الخديوي إسماعيل عن الحكم، وتولي الخديوي محمد توفيق، ولم تمر سوى بضعة أشهر حتى شهدت ساحة القصر واحدة من أهم الأحداث المؤسسة للتاريخ المصري الحديث، وهو ما عرف بمظاهرة 9 سبتمبر عام 1881، عندما وقف في ساحتها الزعيم أحمد عرابي ليعرض مطالب الجيش والأمة المصرية على الخديوي توفيق. وما هي إلا سنوات قليلة على حادثة عرابي، حتى تعرّض القصر لحريق كبير في يوليو عام 1891، دمر جناح الحرملك، ومكاتب الخاصة الخديوية، وقد نجت أسرة الخديوي توفيق من الحريق، لأنها كانت تقيم وقتها في سرايا رأس التين، بالإسكندرية.

شهد قصر عابدين، منتصف الثلاثينيات، الحفل الأسطوري الكبير الذي أقيم لمناسبة زفاف ولي عهد إيران، والأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق، قبل أن يتعرض لحادث دامٍ آخر، تمثل في حصار الدبابات البريطانية له، من أجل فرض إرادة قوات الاحتلال الإنجليزي على سراي الحكم في مصر، والدفع بمصطفى النحاس باشا إلى تشكيل الحكومة، وهو ما يعرف في الأدبيات السياسية بحادث 4 فبراير عام 1942، الذي ألقى بظلال كثيفة على الحياة السياسية في مصر، استمرت حتى قيام ثورة يوليو عام 1952، عندما حاصرته الدبابات المصرية هذه المرة، لإعلان مطالب الثورة، وتخلّي فاروق عن الحكم.
*تصوير: أحمد شاكر
اقرأ أيضاً: قصر الجزيرة.. وقصة حب الخديوي إسماعيل للإمبراطورة أوجيني