12 مايو 2024

هل كان الذكاء ثمنه السّمنة الزائدة؟

أستاذة وباحثة جامعية

هل كان الذكاء ثمنه السّمنة الزائدة؟

لماذا نحب تناول الطعام الدّسم والغني بالسكّر، مع أننا نعلم، حق العلم، أنه يشكل خطراً على صحتنا؟

هو سؤال أرَّق راحة ماري آن رغانتي، من جامعة «كنت» بالولايات المتحدة، فقرّرت أن تدرس الآليات الكيميائية العصبية في دماغنا، والتي تولّد لدينا هذه الرغبات المضرّة. وفي عام 2023 نشرت، وزملاؤها، دراسة تكشف وجود جزيئة دماغية صغيرة هي «النوروببتيد Y» (ببتيد واي العصبي) الذي يتدخل في ميلِنا إلى الإكثار من الطعام، لكنه سمح كذلك لدماغنا بالنمو على امتداد حقبة التطور البشري، إلى درجة أنه صار مختلفاً عن دماغ الحيوانات الرئيسة الأقرب إلينا.

هل كان الذكاء ثمنه السّمنة الزائدة؟
د. ماري آن رغانتي

فقد اهتم الباحثون بمنطقة صغيرة من النظام الدماغي المولج بالمكافأة والتحفيز، وهي «النواة المتكئة» لدى العديد من أجناس الحيوانات الرئيسة، من أجل تحديد نشاط هذا النوروببتيد. لاحظوا بداية أن هذا الأخير متوافر بكمية أكبر بكثير في دماغ الإنسان منه لدى الحيوانات الرئيسة، ما يفسر اندفاعنا نحو الأطعمة الغنية بالدهون والسكّريات. ويبدو أن هذه الرغبة قد أعطت أسلافنا مكسباً تطورياً، أي فائضاً من الطاقة لمصلحة نمو دماغ أكبر، وأكثر تعقيداً، وهو بالتحديد ما يشكّل أساس ذكائنا.

ويقول روبرت سابولسكي، الباحث في علوم الغدد الصّماء العصبية في جامعة ستانفورد، الذي لم يشارك في الأبحاث لكنه تدخّل في آلية تقييمها قبل نشرها «أعتقد أنه يفتح باباً إحيائياً-عصبياً مثيراً جداً للاهتمام في ما خصّ الجنس البشري».

هل كان الذكاء ثمنه السّمنة الزائدة؟

«واي» يجعلنا نأكل لمجرد المتعة

كانت د.ماري آن رغانتي، وزملاؤها، قد لاحظوا أن «واي» متصل بالطعام «الجالب للسعادة»، أي بتناول الطعام لهدف وحيد وهو الإحساس بالمتعة، بدل إشباع حاجة الجوع. فحين حُقِن «واي» في النواة المتكئة لدى جرذان، قام بدفعها إلى البحث عن الطعام الغني بالسعرات الحرارية. بيد أن العلماء قد أهملوا، تاريخياً، دراسة هذا الببتيد العصبي لمصلحة ناقلات عصبية أكثر شعبية، كالسيروتونين والدوبامين المعنيين كذلك بأحاسيس المتعة والسعادة.

لذا، رغب فريق د.ماري آن رغانتي في تعميق أبحاثه، ودهش الباحثون إذ اكتشفوا أن هذا الناقل العصبي يؤدي دوراً أساسياً في النواة المتكئة، لا سيّما لدى الإنسان.

«واي» جعل دماغنا يزداد سمنة

انطلاقاً من هنا، افترض الباحثون أنه في وقت ما من تطوّرنا، حدثت طفرة جينية لدى أسلافنا ساعدت على إنتاج «واي». وهذا بدوره حثَّ الدماغ على البحث عن مزيد من المواد الدسمة واستهلاكها، ما نجم عنه فائض من السعرات الحرارية، مكّنت جنسنا من أن يصير الأشد كفاية على مستوى التناسل، وأن يكرّس مزيداً من الطاقة من أجل نمو دماغ أكبر حجماً.

بيد أن «واي» يحمل جانباً مظلماً، إذ يساعد على الإصابة باضطرابات في التغذية وبالإدمان. هذا ما يفسّر لماذا يصاب هذا العدد الكبير من الأشخاص بهذه الأمراض، فما كان سابقاً من محاسن التطور، يؤدي اليوم إلى اضطرابات في مجتمعاتنا الحديثة.

لكن باحثين آخرين يبدون أكثر تحفظاً في ما يخص أهمية «واي» في التطور البشري. إذ يشير بنجامين كامبل، العالم الأنثروبولوجي العصبي من جامعة ويسكونسن-ملووكي في الولايات المتحدة، إلى أن فريق د.ماري آن رغانتي قد خرج باستنتاجاته حول دور هذه الجزيئة انطلاقاً من تجارب أجريت على الجرذان. بيد أن 65 مليون سنة من التطور تفصل القوارض عن البشر، ما يعني «أن ديناميكية هذا التخزين مختلفة تماماً بين الجنسين»، كما يقول.

ومن ناحية أخرى، ليس «واي» سوى واحدة من مواد كيميائية كثيرة ناشطة في النواة المتكئة، بحسب كامبل. ومن الصعب أن ننسب مظهراً بهذا التعقيد من مظاهر التطور البشري إلى شيء بهذه الخصوصية.. وتعترف د.ماري آن رغانتي بهذا، وترغب في مواصلة أبحاثها حول أهمية الناقلات العصبية غير المدروسة كثيراً، حتى اليوم، كما «واي»، إذ لا يمكن لناقل عصبي واحد في منطقة محددة من الدماغ أن يشرح ما يجعل منّا كائنات بشرية. مطلوب منا أن نفهم الصورة الكاملة بشموليتها.