عروض الأزياء في باريس كثيرة، لكن هذا كان أغربها، وفي الوقت ذاته أقربها إلى القلب. عشر سيدات يتمشين على المنصة أنيقات، مبتسمات، رافعات الرؤوس ثقة وانتصاراً.
عارضات لسْن كالعارضات العاديات اللواتي يشبهن «باربي» في مقاييسهن، إنهنّ مريضات بالداء الخبيث، وقد قرّرن الخروج من شرنقة المعاناة، والتشاؤم، والحزن، والسير تحت الأضواء، واستعراض شغفهنّ بالحياة.
وراء هذه البادرة الجميلة جمعية اسمها «نتحدى السرطان»، وقد اعتادت تنظيم عرض من هذا النوع مع بشائر ربيع كل عام. والهدف من العرض الإعلان عن قوّة المرأة في مواجهة قسوة المرض، وقدرتها على تجاوز الألم، ولو لساعة من الزمن. ساعة من السعادة واستعادة الأنوثة المسلوبة.
جرى العرض في مدينة «ليل» شمال فرنسا. ولمن لا يعرف، فإنها مدينة تشتهر تاريخياً بكآبة مناخها، وقتامة مبانيها، وبالمزاج السوداوي لسكانها. لكن ذلك كان في الماضي. والمدينة اليوم تستقبل زوارها بالابتسامة، والزهور، ولطف المعشر. ورغم ندرة الأيام المشمسة فيها، فإنها تعوّض الشمس بفعاليات فنية، ونشاطات تدفئ القلب.
على المسرح كانت ماري، وكارولين، وفاني، وكارين، ورفيقاتهنّ يستعرضن فساتين تخفي جروح الجسد. إنها من توقيع كبار المصممين، وقد جلست كل واحدة منهنّ بين يدي خبيرة التجميل والتمشيط قبل الصعود إلى المنصة. فهذا يوم مختلف عن تلك الأيام الصعبة التي يقضينها في أروقة المستشفيات، ومراكز العلاج الكيمياوي. وما أبعد الفرق بين شذى العطر الباريسي، وبين رائحة الأدوية المطهرة.
تشرف على جمعية «نتحدى السرطان» مجموعة من طالبات الجامعة اللواتي وجدن في هذه الفكرة مجالاً لمساندة نساء وفتيات في محنة المرض. وبناء على جهود الطالبات لبّت دور الأزياء النداء، وأسهمت في تحقيق هذه السهرة الجميلة. وتم توجيه الدعوة لحضور العرض إلى 300 امرأة من المصابات بالمرض، سواء اللواتي تعالجن وخضعن لاستئصال الثدي، وتعافين، أو أولئك اللواتي ما زلن في طور العلاج.
كان مشهد العارضات مؤثراً على منصة العرض، وتحت أضواء «قصر رامو» التاريخي العريق. ولم نكن نتفرج على مسرحية، أو حفل موسيقي، بل على احتفاء بالشجاعة، والصبر، والتحمّل، والتعايش مع الأوجاع. إن الرسالة التي خرجنا بها هي أن الحياة تبقى جميلة ومرغوبة، رغم كل شيء. ولابد من التمسك بالأمل، والاعتراف بنعمة العيش. فكم من سيدة معافاة لا تعرف قيمة عافيتها. وكم من إنسان كامل الصحة يمضي حياته في الشكوى، ولا تسمع منه عبارة: الحمد لله!