تحظى قصص الحب بالإعجاب والدهشة في أي زمان ومكان في العالم، فالحب كان ولا يزال، سراً ومعجزة لم يتمكن أحد من تحليل أسبابه ولا معرفة وقت وقوعه في القلب وكيف يمكنه التسلل إليه بدون استئذان، كما لا يمكن تغييره أو استبداله أو تعويضه بحب آخر.
ويحول الحب أقسى الناس وأشدهم عدائية إلى أكثرهم لطفاً وتهذيباً، ويغيرهم ويبدل نفوسهم لكنه أبداً لم يكن سيصل يوماً إلى درجة تخلي أحدهم عن كل شيء من أجل الآخر ما لم يكن قد وصل إلى درجة الوله والشغف. ولم يكن ما فعله العشاق الذين سجل التاريخ حكاياتهم أقل من ذلك، فهي لن تتكرر وكتبها القدر وسجلها على جدران الزمان واختص بها من اختارهم، فلا يمحوها حاضر ولن تتكرر في مستقبل.
ومن بين هذه القصص، واحدة، لم تتمكن أقسى الظروف من إنهاء ما فيها من حب ولا تزال من أجمل القصص وأروعها لأنها قصة حب ولد وترعرع في بيت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام شاهداً عليها وطرفاً فيها.
فمن لم يسمع عن قصة «زينب» الابنة الكبرى للرسول عليه الصلاة والسلام من زوجته خديجة رضي الله عنها، والتي تزوجت ابن خالتها أبي العاص بن ربيع، وأسلمت قبل عودة زوجها من إحدى سفراته فعاتبها على دخولها الإسلام بدون أن تخبره، وطلب أن تعذره عن دخول الإسلام خشية ظن قومه بأنه خذلهم، فلم تعاتبه بل قالت: ومن يعذر إن لم أفعل؟
وشارك أبو العاص في غزوة بدر ضد الرسول عليه الصلاة والسلام وخافت زينب أن يقتل أيهما وكلاهما حب حياتها. ويظهر موقفها يوم انتصر المسلمون بسجودها شكراً لله، لكنها افتدت زوجها الأسير بقلادة أمها خديجة. واعتصر ذلك قلب الرسول عليه الصلاة والسلام فاستشار من حوله في فك أسر أبي العاص ورد قلادة خديجة لابنتها وقبلوا به. ثم ذهب عليه الصلاة والسلام إلى أبي العاص طالباً أن يرد له ابنته فلا يجوز أن تتزوج مسلمة بكافر، ووعده أبي العاص وأوفى بوعده وقلبه ينزف ألماً على فراق حبيبته.
وتمر السنون ويذهب أبو العاص في تجارة لقريش فيهاجمه المسلمون ويأخذون متاعه فيفر منهم إلى بيت زينب التي تسأله بأمل: أجئت مسلماً؟ فقال: بل جئت هارباً. ومع ذلك أخرجت رأسها إلى حيث يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وقالت بأن أبي العاص معها وقد أجارته. فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الانتهاء من الصلاة إلى قومه وسألهم إن قبلوا أن يردوا له ماله، فقبلوا وردوه. وأعاد أبو العاص أموال قريش وعاد معلناً إسلامه قائلاً للرسول عليه الصلاة والسلام: ﻳﺎ رﺳﻮل اﻟﻠﻪ أﺟﺮﺗﻨﻲ ﺑﺎلأﻣﺲ واﻟﻴﻮم جئتك مسلماً، ﻫﻞ ﺗﺄذن ﻟﻲ أن أراﺟﻊ زﻳﻨﺐ؟ فتوجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى زﻳﻨﺐ وقال: إن اﺑﻦ ﺧﺎﻟﺘﻚ ﺟﺎء ﻟﻲ اﻟﻴﻮم ﻳﺴﺘﺄذﻧﻨﻲ أن ﻳﺮاﺟﻌﻚ، فاﺣﻤﺮّ وﺟﻬﻬﺎ واﺑﺘﺴﻤﺖ، وﺑﻌﺪ ﺳﻨﺔ من مراجعتها توفيت السيدة زﻳﻨﺐ، ﻓﺒﻜﺎﻫﺎ أبو العاص كما لم يبك أحد وهو يقول للنبي: ﻳﺎ رﺳﻮل اﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻋﺪت أﻃﻴﻖ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﻐﻴﺮ زﻳﻨﺐ، ولحق بها ﺑﻌﺪ وفاتها بسنة.