تبقى الصراحة من أبرز أسس التفاهم وبناء الثقة بين الأزواج، إلا أنها يمكن أن تتحول أحياناً إلى سبب للخلافات إذا لم تمارس بحكمة.. وبين مؤيد ومعارض لها تبرز الحاجة إلى إدراك حدود الصراحة وأهميتها للعلاقة الزوجية.
لطالما قيل إن «الصراحة راحة»، لكن هل يمكن اعتبار هذا المبدأ قاعدة ذهبية تنطبق على جميع العلاقات الإنسانية؟ وهل تكون الصراحة مفيدة في كل الظروف، سواء بين الأصدقاء أو الأهل أو حتى الأزواج؟
توضح، الدكتورة هنادي علي، استشارية العلاقات الزوجية وتطوير الذات: «عند الحديث عن العلاقة الزوجية على وجه الخصوص، تبرز الصراحة كعنصر أساسي لبناء التفاهم والثقة بين الشريكين. لكن الخلاف يكمن في مدى هذه الصراحة! هل يجب أن تكون مطلقة دون قيود، أم أن هناك حدوداً تحكمها وفقاً لحساسية الموقف وطبيعته؟»، وتضيف: «بينما يرى بعضهم أن الصراحة المطلقة هي السبيل الأمثل لتجنب سوء الفهم وبناء علاقة صحية قائمة على الثقة المتبادلة، هناك من يجد أن الإفصاح عن كل التفاصيل يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، خصوصاً إذا كانت بعض الأمور تسبب جرحاً للمشاعر أو تخلق توتراً دون داعٍ.
وهنا يجب أن يعي الأزواج أن الصراحة لا يمكن أن تكون قاعدة عامة، بل مهارة تحتاج إلى توازن وحكمة، فليس كل ما يُقال يسهم في تعزيز العلاقات، وقد تكون الصراحة المتفاوتة، التي تراعي السياق والظروف، هي الخيار الأكثر نضجاً للحفاظ على استقرار العلاقات الزوجية والإنسانية على حدٍ سواء».
هل للصراحة حدود؟
تشرح مستشارة العلاقات الزوجية حدود الصراحة وتأثيراتها: «على الرغم من أهمية الصراحة في العلاقة الزوجية كوسيلة لتعزيز الثقة والتفاهم، فإن هناك من يرى أن الصراحة المطلقة قد تحمل مخاطر تهدد استقرار الأسرة إذا لم تُمارس بحكمة ووعي، فالصراحة المفرطة، خصوصاً في أمور لا تمت للأسرة أو الأبناء بصلة، قد تأتي بنتائج عكسية تؤدي إلى توتر العلاقة، فمن غير المنطقي أن تكون المصارحة شاملة لكل تفاصيل الحياة الخاصة للأزواج، مثل علاقاتهم بأصدقائهم أو بأفراد عائلاتهم؛ حيث تظل هذه الأمور ضمن دائرة الخصوصية الشخصية. فإفشاء أسرار الآخرين، سواء الأصدقاء أو الأهل، لن يعود بالنفع على الشريكين، بل قد يخلق أعباء نفسية ومشكلات إضافية، كما أن التطرق إلى العلاقات السابقة، سواء من الزوج أو الزوجة، يعدّ تصرفاً غير حكيم، مهما بدا الشريك الآخر متفهماً أو مطمئناً. كما أن الأسئلة حول الحب القديم أو العلاقات الماضية، مثل: «من أحببت؟» أو «ما مدى علاقتك به؟»، لا تسهم سوى في إثارة الشكوك وإضعاف الثقة، بل قد تتحول إلى قنبلة موقوتة تهدد استقرار العلاقة وتفتح أبواباً للظنون المستمرة.
لذلك، يرى الخبراء أن الصراحة بين الأزواج يجب أن تكون مدروسة، تحقق التفاهم ولا تنتهك حدود الخصوصية الشخصية، فما يحتاج إليه الزواج ليس إفشاء كل الأسرار، بل بناء علاقة تقوم على الثقة والاحترام المتبادل، مع إدراك أن بعض الأمور تُترك طي الكتمان حفاظاً على استقرار الأسرة وسلامة العلاقة».
أهمية الصراحة بين الزوجين
بينما تثار الكثير من التساؤلات حول حدود الصراحة بين الأزواج، يبقى التعبير عن المشاعر والمصارحة بها جانباً إيجابياً إذا ما تمت بحكمة وفي الوقت المناسب، تكشف د. هنادي: «المكاشفة الصادقة والبناءة تعزز العلاقة الزوجية، وتقرب بين الشريكين، شريطة أن يكون الهدف منها إيجاد حلول للمشكلات أو تقوية العلاقة والروابط العاطفية، وليس الهدم أو إثارة التوتر. في المقابل يتسبب غياب الصراحة في المشاعر بتراكمات عاطفية مؤدية إلى فجوات داخل العلاقة الزوجية بمرور الوقت، ويزداد الأمر تعقيداً حين يختار الأزواج الصمت أو الامتناع عن التعبير عما يختلجه عما في نفوسهم، مؤدياً إلى حالة من «الطلاق العاطفي» أو «الصمت الزوجي»؛ متسبباً في فجوات يمكن أن تفتح المجال للبحث عن الذات خارج إطار العلاقة الزوجية، ما يزيد من التوتر والقلق.
لذلك من المهم أن يمتلك الزوجان وعياً كافياً عما يجب الإفصاح عنه، وما ينبغي كتمانه، فالصراحة الناجحة تعتمد على التزام آداب الحوار، خالية من التجريح، يركز على وصف السلوكيات القابلة للتغيير بدلاً من مهاجمة الشخص ذاته. عندما تتم المصارحة بشكل إيجابي، فإنها تُسهم في تقارب وجهات النظر، وتكشف عن الخبايا التي قد تعيق التفاهم، ما يساعد على معالجة المشكلات في وقتها قبل تفاقمها. والأهم من ذلك، أنها تعزز شعور كل طرف بأهميته في العلاقة، وتوطد أسس الحب والاحترام بين الشريكين».
صراحة الرجل.. وصراحة المرأة
وحول حقيقة تفضيل بعض الأزواج إخفاء أمور وقضايا يفضلون عدم الكشف أو المصارحة بها، تبين د. هنادي: «بينما تُعد الصراحة عنصراً أساسياً لنجاح الحياة الزوجية، فإن هناك تفاصيل معينة يعتبرها بعضهم جزءاً من خصوصيتهم الشخصية ولا يرغبون في مشاركتها مع شريك الحياة. وقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجريت في هذا الشأن، أن الرجال يميلون إلى إخفاء بعض الجوانب المتعلقة بحياتهم المادية والشخصية، مثل مقدار دخلهم المالي، وعلاقاتهم بأصدقائهم، والذكريات الماضية، والعلاقات السابقة مع النساء، ومشاريعهم الخاصة، وحتى الديون إن وجدت. بينما تفضل النساء الاحتفاظ بالأسرار التي تتعلق بمشاكل عائلاتهن، وأوجه صرف رواتبهن، وأسرار صديقاتهن، والمساعدات المالية التي يقدمنها لعائلاتهن.
وقد أثارت هذه النتائج التساؤلات حول حدود الخصوصية داخل العلاقة الزوجية، وما إذا كان الاحتفاظ ببعض الأسرار ضرورة للحفاظ على الاستقلالية الفردية أم أنه قد يؤدي إلى توترات مستقبلية، وقد أجمع الخبراء على أن النجاح في أي علاقة يتطلب التوازن بين الصراحة والخصوصية، مع التركيز على أهمية بناء الثقة والاحترام المتبادل».
شروط الصراحة الإيجابية
إذن، تعد الصراحة من أساسيات بناء علاقة زوجية ناجحة، لكنها كأي مهارة أخرى تحتاج إلى أسلوب صحيح وآداب محددة لتؤتي ثمارها، فهي وسيلة لإعادة بناء الثقة وتعزيز التفاهم بين الأزواج إذا ما تم استخدامها بحكمة ولطف...
لذلك تضع مستشارة العلاقات الزوجية جملة شروط لنجاحها:
- اختيار الكلمات بعناية: يجب أن تكون المصارحة لينة وهينة على النفس، مع انتقاء العبارات التي تحمل رسائل بنّاءة بعيداً عن التجريح.
- اختيار الوقت المناسب: تحين اللحظة التي يكون فيها الطرف الآخر مستعداً للاستماع، بعيداً عن أي ضغوط أو معوقات.
- اتباع أسلوب هادئ: يجب تجنب الانفعال والحدة، فالحوار الهادئ يخلق بيئة صحية للتفاهم.
- التركيز على السلوكيات لا الأشخاص: بدلاً من انتقاد الذات، مثل «أنت عصبي»، يمكن توجيه الحديث للسلوك بعبارات مثل «أنت مميز في كثير من الأمور، لكن عند الغضب يصبح سلوكك عدوانياً». هذا الأسلوب يكون أقل قسوة ويُركز على أفعال قابلة للتغيير.
- التدرج في الحوار: من الأفضل تجزئة النقاط المطروحة وعدم تفجير المواضيع دفعة واحدة لتجنب التوتر والانفعال.
ما يجب تجنبه عند المصارحة
أما عن أمور يجب تجنبها أثناء المصارحة:
- التجاهل والتهميش: من المهم منح الشريك كامل الانتباه وعدم مقاطعته أو التقليل من رأيه.
- الصراخ والانفعالية: ارتفاع الأصوات قد يُحول المصارحة إلى جدال غير مثمر.
- التظاهر بالانشغال: تجاهل الشريك أثناء حديثه أو الانشغال بأمور مثل الهاتف أو التلفاز يُضعف التواصل.
- استخدام الكلمات الجارحة: المصارحة البناءة لا مكان فيها للعبارات البذيئة أو المسيئة.
- العشوائية في الطرح: الحديث بشكل غير منظم قد يُربك الشريك ويؤدي إلى سوء الفهم.
توجز د. هنادي: «في المجتمع الشرقي، تلعب القيم والتقاليد دوراً محورياً في تشكيل مفهوم الصراحة بين الزوجين، وقد تكون هذه التقاليد أحياناً عائقاً أمام التعبير العاطفي والتفاهم الحقيقي. يُلاحظ أن العديد من الرجال الشرقيين يتجنبون الإفصاح عن مشاعرهم تجاه الزوجة، معتقدين أن ذلك يقلل من رجولتهم وهيبتهم. في المقابل، يكثر الانتقاد وتصيد الأخطاء بدلاً من تقديم المديح، خشية أن يؤدي الثناء إلى غرور الزوجة أو سيطرتها داخل الأسرة. وعلى الجانب الآخر، هناك حالات تُعدّ الصراحة فيها غير محبذة، مثل وجود عيب خلقي لدى أحد الشريكين لا يؤثر في الحياة الزوجية، في مثل هذه الحالات، يجب الامتناع عن التصريح بعدم القبول به حفاظاً على مشاعر الطرف الآخر، خاصة إذا كان هذا العيب معروفاً قبل الزواج. كما أن المصارحة بالذنوب والمعاصي التي سترها الله، عز وجل، تعد من الأمور المحرّمة، كونها تدخل في نطاق الجهر بالمعاصي، وهو ما حذر منه الدين الإسلامي».
وتختم: «تظل العلاقة الزوجية قائمة على التفاهم ومراعاة المشاعر. فالصراحة تُستخدم متى كانت بناءة وتُسهم في تقوية أواصر العلاقة، بينما يُفضل الابتعاد عنها إذا كانت سبباً في الهدم أو تهديد استقرار الأسرة، المفتاح يكمن في الحكمة، حيث يكون التوازن بين الإفصاح والكتمان هو الأساس لعلاقة ناجحة ومستدامة».