قرأت مرّة عبارة معبّرة استوقفتني وأودّ أن أنقلها إلى القرّاء.
تقول العبارة: «حين يرى كائنان بشريّان يعيشان في مسكنٍ واحد بعضهما بعضاً، كل يوم، إضافة إلى ذلك يُحبّ أحدهما الآخر، فإن أحاديثهما اليومية تؤلف ذاكرتيهما، وبموافقة ضمنية، وغير واعية، يتركان في النسيان مساحات كبيرة من حياتهما. يتحدثان، ويعودان ليتحدثا عن عددٍ محدود من الأحداث التي ينسجان بها الحكاية ذاتها، فتهمس فوق رأسيهما مثل نسمة بين الأغصان، وتذكّرهما دائماً بأنهما عاشا معاً».
هل قصد صاحب هذه العبارة القول إنّ لدى الشركاء في العاطفة، أو في الزواج، غواية الحديث عن بضع حكايات تترك، أكثر من سواها، صدى في نفوسهم، ومن بينها البدايات، بدايات حبهما الأولى: الإيماءة الأولى، اللقاء الأول، الحديث الأول، «أول سلام بالإيد»، كما في أغنية عبدالحليم حافظ الشهيرة؟ وهل تجارب الناس تؤكد صحة ما قاله الرجل، أم أنّ البدايات، الجميلة عادة، تضيع وسط زحام الحياة، وتفاصيل العِشرة اليومية، وتدبّر شؤون المعيشة، فتتضاءل مساحة ما هو «رومانسي»، لمصلحة ما هو «واقعي»؟.. إنه أمر قابل للنقاش، وبوسع أيّ شريك، رجلاً كان أو امرأة، أن يدلي بدلوه بهذا الخصوص.
الأرجح أنّ كاتب العبارة تلك، الواردة في إحدى الروايات كما أرجّح، ولعلها تكون لميلان كونديرا، عنى أن للبدايات سحراً خاصاً، جاذبية خاصة، في مراحل توهّج العاطفة التي تنجم عن تلك البدايات، حين يكون لدى المحبين رغبة لا تقاوم في العودة إلى الحديث عنها، وفي كل مرة يُسمع بعضهم بعضاً التفاصيل نفسها التي يحفظها كل منهم، عن ظهر قلب كما يقال، وإذا فات أحد الشريكين، وهو يحكي، جانباً من الأمر، فإنّ الآخر يُذكّره: «كيف نسيت هذا؟، ألا تتذكّر؟ّ».
يأتي الناس إلى الحب من مسالك مختلفة، وعبْر ملابسات ومصادفات مختلفة، الكثير منها غير مخطّط له، وإن كان بعضها يتمّ بترتيب مسبق، لكن بدايات الحب تتكرّر، تكاد تتشابه في أدقّ التفاصيل، فللحب الأعراض نفسها التي تطرأ على الأشخاص المختلفين حين يقعون فيه، وأكثر مرحلة تتجلى فيها هذه الأعراض هي مرحلة البدايات، التي يكون فيها كل شيء نضِراً، ومشرقاً، ما يجعل دقات القلب تكاد تكون مسموعة من الآخرين، وربما انتاب هؤلاء المحبين، بعد حين، حنين لسماع هذه الدقات بعد مضي السنوات، عبر استعادة ما أبقته الذاكرة من جميل الذكريات.
وهنا يأتي السؤال الذي سبق أن طرحناه غير مرّة، عن السبب الذي يجعل الذاكرة لا تحتفظ إلا بنزر يسير من الأحداث والوقائع الكثيرة التي يعيشها الناس في حياة ممتدة، ولماذا لا تلحّ على الأذهان سوى ذكرى بضع حكايات، فيما تتوارى الكثير من الحكايات، وربما أغلبها، في الطبقات السفلى من الذاكرة، ولا تحضر على البال وقتما يشتهي من عاشوها يوماً؟ ألأنّ لهذه الحكايات وقعاً خاصاً، سحراً كذاك الذي لحكايات البدايات، أم لأنّ حيز الذاكرة محدود وضيق، لا يتسع إلا لأشياء محدودة، أشبه بطاقة سدّ لحبس المياه لا يحتمل أكثر من مساحته؟ وإذا صحّ ذلك، فما السبب الذي يجعل أشياء دون غيرها حاضرة في الذاكرة، نستدعيها وقتما نشاء، ولماذا تنتقيها الذاكرة دون سواها، فيما تلقي بسواها في غياهب النسيان؟
اقرأ أيضاً: د. حسن مدن يكتب: حيّز الذاكرة