ألا يجعلنا الحب أكثر قوّة وسعادة وحيويّة؟ في العادة، نعم، لكن مع الحب الموجع تبدو الأمور مختلفة. في علاقة مؤلمة ومعقدة، تبدو الأمور متنافرة، ولكن ماذا حصل بالضبط؟ وما هي حصتكم من المسؤولية في الخيار الذي أجريتموه؟ وهل تضعون حدّاً للعلاقة من أجل إنقاذ ما تبقّى منكم، أم تبقون حفظاً للأسرة والأولاد، وخوفاً ممّا قد يُقال؟
في كتابها المعنون «هذا الحب الذي يوجعنا»، تبدأ المؤلفة باتريسيا ديلاهاي، تحليلها المشوّق بطرح مجموعة من الأسئلة: ما هو الحب «السَّوي»؟ ألّا يطير عقلك من رأسك أبداً؟ ألّا تشعر بـ«الحاجة» إلى الشريك أبداً؟ ألّا تفكر فيه، أو فيها، ليل نهار؟ ألّا تفقد الشهية؟ ألّا تشعر بالنقص حين يكون الشريك بعيداً؟ أن تعيش حياة زوجية بلا تعقيدات، ولا حكايات، ولا مشاكل؟ أم أن تظل قادراً على «إدارة» حياتك قبل لقاء الشريك، وبعد، كما لو أن شيئاً لم يكن؟
وفي هذه الحالة الأخيرة، هل يكون من «غير السّوي» أن تقلق وتجزع بانتظار رنّة هاتف؟ أن يخفق قلبك عند فكرة لقاء؟ أن تمضي ساعات في تردّد أمام المرآة من أجل اختيار الملابس التي قد تعجب؟ ألا تتمكن من ابتلاع أيّ لقمة طعام؟ أن تجترّ الكلمات التي كان يمكن أن تقولها ولم تفعل؟ أن يصيبك الأرق؟ أن تحب إلى درجة تصير فيها شخصاً آخر؟ إلى درجة تفقد فيها مبادئك، وأخلاقك، وأولوياتك؟ إلى درجة تؤمن فيها بأنك ستحب هذه المرأة، أو ستحبين هذا الرجل طيلة حياتك؟
متى نكون معرَّضين للحب الجارف؟
هل الشغف والوله علامة حيوية وصحة جيدة؟ هل هو الإثبات على أننا نعرف كيف نحب؟ أم أنه يكشف حالة عصابية تعتمل سرّاً في داخلنا؟ حتى علماء النفس لا يتفقون حول هذه المسألة. يرى بعضهم أن الشغف هو نوع من تضخُّم في شعور الحب، في حين أن بعضهم الآخر يرى أنْ لا علاقة له بالحب، وأنه شعور مرَضي يجد جذوراً له في صدمات الطفولة الخفية.
من بوسعه أن يحسم هذا الجدل العلمي؟ علماً بأن الشغف الذي يؤدي إلى حياة مشتركة سعيدة يعتبر أعجوبة بين شخصين يجمعهما حب مستدام، ولا يجري الحديث عن فقدان توازن إلا إذا ساءت الأمور بينهما، مع أن العوارض هي ذاتها في الحالتين: الهوس نفسه، والألم نفسهن عند الغياب والتبعية...
سواء أكان الشغف سعيداً أم مدمِّراً، فهو مسألة طباع... شغوفة. حتى يسعد المرء به، أو يتألم، يجب أن يمتلك طباعاً لا تقبل الحلول الوسط، مندفعة، إيجابية، عاجزة عن تخيُّل الأسوأ، لكنها تعرف كيف تخترع المستقبل، وتحلم به، وتخلقه انطلاقاً من تمتمات الحاضر. لا نرى الشغف بمثابة عيبٍ، بل بمثابة تعبير عن طباع نارية، تحملنا نحو الكائنات والأشياء بكلّ جوارحنا.
الحب بحاجة إلى مراجعة دائمة
يحتاج الحب إلى طاقة عالية، هو كنز ينبغي الحفاظ عليه، لأن خطأنا هو أننا قد أحببنا بسرعة، لا أننا قد أحببنا بشغف، وقوة. أحببنا من دون أن نعطي أنفسنا الوقت الكافي للتفكير، ولمعرفة من هو ذا الذي أمامنا، وماذا بوسعنا أن نتوقع منه... كنَّا فاقدي الحذر، وانطلقنا من دون النظر إلى البعيد. حين نحب، نعشق، نحب بلا تمييز، ولا حذر، ولا حساب.
قد يكون من المؤسف، والحال هذه، أن نترك هذه الشعلة التي تحيينا تنطفئ، فهي مصدر ثروتنا الداخلية. في المقابل، يمكننا أن نلطفها قليلاً، وأن نضفي عليها بعضاً من العقل، من خلال تقدير الوضع وتقييمه في كل مرحلة من مراحل الحب. فحتى الشغف ينبني لبنة لبنة، وخاتمته، السعيدة أو التعيسة، لا تعتمد علينا فقط. فالخاتمة تعني البيئة، والأطفال، والأسرة، وبالأخص الشريك الذي قد يقبل أو يرفض، في أيّ لحظة، أن يرافقنا في أحلام الحب الأبدي. في الشغف السعيد، يرافقنا الشريك طيلة حياتنا، وفي الشغف المأساوي يتخلى عنا في الطريق... ذاك هو الفرق الوحيد بين الاثنين.
الحب من النظرة الأولى
لطالما جعلتنا أسطورة الحب من النظرة الأولى نظن أنْ لا وجود سوى لشخص واحد في العالم يلائمنا، وأن التعرّف إليه يحصل بشكل فوري ونهائي. وقد دلت الدراسات الاجتماعية على أن الحب من أول نظرة موجود، لكنه لا يقع علينا كالصاعقة من السماء، بل يسبقه عدد من الاستكشافات التي أحسسنا خلالها بميل لهذا، أو ذاك. دعونا نتذكر أننا قد «أعجبنا» بشخص ما، وشعرنا تجاهه بـ«شيء» ما، ممكن أن يحصل، لكن كل واحد منا واصل طريقه، لتبقى ذكرى الإعجاب، ثم اندثارها مع الحب الذي كان يمكن أن يقع... وتقول هذه الدراسات إن حكاية الحب من النظرة الأولى هي إعادة تمثيل متأخرة لحكاية الحب هذه. هكذا نكتب أسطورة الحب الذي يجمعنا بالشريك، لكن الواقع هو أن الحب عملية متدرّجة تبقى لفترة طويلة قابلة للانقلاب، أي من السهل قطعها من دون ألم كبير.
فنحن ندخل في الحب على مراحل. وفي كل مرحلة، يتعيّن علينا أن نراجع ما حدث، حتى لا نذهب بعيداً في أفكارنا، من دون أن يرافقنا الآخر فيها. ففي لحظة ما، يلتزم كياننا بأسره، ومستقبلنا معه، بهذه العلاقة إلى درجة أننا لا نعود قادرين على التراجع، والانفصال من دون هزة عميقة في كياننا، هذا إن لم يكن دماراً في أسس شخصيتنا بالكامل.
وبهذا المعنى فإن الشغف المدمِّر لا يأتي من حب عصابي، بل من خطأ في التقدير. قلّة الخبرة، وقلّة التمييز، وسذاجتنا، أو ببساطة حماستنا، لم تمكننا من رؤية المسافة التي بدأت ترتسم بين أحلامنا، والواقع الذي يعيشه الشريك الذي لم يستطع، أو لم يرغب في مرافقتنا حيث نريد.
اليقظة والحذر هما خشبة الخلاص
لكن، فلنرجع إلى الحب في بداياته. تبدأ كل علاقة بانجذاب. شيء ما في هذا الشخص يدفع بنا إلى الرغبة في معرفته. ليس بالضرورة جماله، ولكن طريقته في الكلام، أو الجلوس، أو النظر... يلفت انتباهنا ويحيِّرنا، إلا إذا بدا لنا آسراً ومزعجاً، في آن. وفي هذه الحالة، هو انجذاب معاكس أي أننا نقاوم ما يعجبنا فيه.
في هذه المرحلة، الأكثر يقظة بيننا، يشعرون بالحذر، ويقرّرون مواصلة طريقهم، في حين أن الأقل حذراً يندفعون مغمضي العينين. وهنا قد يضيِّع بعض كبار الحالمين البوصلة لينسبوا إلى الشريك المشاعر التي يشعرون بها وحدهم. فبعض الغواة، من رجال ونساء، يتظاهرون بالحب لمجرد متعة الغواية، في حين أنهم لا يأبهون للمشاعر، والعلاقة الصادقة. حيازة الإعجاب بالنسبة إليهم هي مجرّد لعبة تجعل الفراشة الرومانسية تحرق أجنحتها عند اقترابها منهم.
من الأفضل منذ البداية، أن نتأكد من شعور الآخر ومشاريعه، قبل أن ننطلق في أحلامنا. فالنرجسيّون المنحرفون يكرهون الحب، ويرون فيه «ضعفاً»، و«تبعية» ينبغي تجنُّبها بأيّ ثمن. وهذا ما ينبغي أن «يبرِّد» مشاعرنا تجاههم، أو على الأقل، ينذرنا بمخاطر الاقتراب كثيراً منهم. ومهما يكن من أمر، يبدأ الوجع حين يبدأ طرف بنسج حلم الحب الكبير، في حين أن الآخر يكتفي بالرغبة، أو بالعاطفة. وربما يأتي الإعلان الكبير: «أنا أحبك»، ولكن حتى هنا، ينبغي التفاهم على ما يعنيه الحب لكل طرف. هل يعني أني أنوي أن أقضي حياتي معك، وأن نبني أسرة معاً؟ أم يعني أنني أشعر بالراحة والمتعة معك وبجمال الحياة، وحسب؟
نفهم الآن لماذا لم يكن ذنبنا أننا أحببنا بقوّة، بل ذنبنا أننا أحببنا بسرعة، من دون أن نطرح على أنفسنا، بانتظام، الأسئلة التي تبرِّد، أو تزيد حماستنا واندفاعنا.
نفهم كذلك لماذا يستند الشغف إلى خطأ في تقدير، أو تقييم شعور ورغبة الشخص الذي اخترناه، ولماذا يدمّرنا الشغف حين نواصل مسيرنا وحدنا على طريق أحلامنا، بعد أن يتخلى عنا الشريك الذي لم يشاركنا يوماً هذه الأحلام.
اقرأ أيضاً: أسرار الحب الدائم.. 7 ركائز أساسية لبناء علاقة زوجية سعيدة