02 مارس 2025

روحانيات شهر رمضان.. تذيب جليد الخلافات الزوجية وتعزز الترابط المجتمعي

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

كانت أم محمد تجهّز حقائبها للعودة إلى بيت أهلها بعد طلب الطلاق، ودخل عليها ابنها محمد وفي جعبته الكثير من الأسئلة، إلا أن السؤال الأول الذي جعلها تتراجع، وتقف عند حدود باب المنزل: «كيف سنقضي رمضان من دونك؟».
ذاك السؤال قادها إلى عوالم من التفكير العميق، ومن بسط ظلال التسامح على علاقتها مع زوجها، وفتح باب الحوار والنقاش بينهما.

فشهر رمضان المبارك يُعدّ فرصة للزوجين لتعزيز التواصل بينهما، وسيادة روح الألفة، كما للمصلحين، لاستثماره واستثمار فضائله في حث الأزواج على الصلح، وهو مناسبة لتعزيز العلاقات بين الأفراد، سواء داخل العائلة الواحدة، أو في المجتمع، وإحياء الألفة.

ومع «عام المجتمع» الذي أعلنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، تحت شعار «يداً بيد»، لا بد من طرح التساؤل عن الصلح، وعن رمضان، كفرصة ثانية تعيد إلى العائلة الدفء والسكينة، في ظل الروحانيات التي تظلّل هذا الشهر، وفي إعادة شبك الأيادي بعضها ببعض.

فهل حالات الصلح تزداد في هذا الشهر الفضيل؟ وماذا عن تراجع الأزواج عن قرارات صعبة تم اتخاذها؟ وماذا عن تسامح الأفراد تجاه بعضهم لبعض؟

مجلة كل الأسرة

ارتفاع ملحوظ في حالات الصلح في رمضان

يؤكد رئيس محاكم رأس الخيمة المستشار أحمد محمد الخاطري، أن «الصلح «حميد» في كل الأوقات، وهناك معالجات لمختلف جوانب الخلافات، وتشجيع الصلح من قبل المؤسسات والمجتمع المدني والأفراد، يسهم في تقليل ذرائع التقاضي، والحد من المشكلات، بخاصة الأسرية، وتعزيز آثاره الإيجابية التي تعود بالنفع على المتخاصمين أنفسهم، وعلى المجتمع ككل»، موضحاً أن معرفة المحيط الاجتماعي بأطراف النزاع، وإدراكه لحل الخلاف بالصلح يعزز قيمة الصلح في المجتمع، ويرفع من مكانة الصلح كوسيلة أساسية، ومثلى، للحدّ من المشكلات الأسرية والاجتماعية.

ما يركّز عليه المستشار الخاطري هو طبيعة شهر رمضان المبارك، ويقول «لا نتلقّى مشكلات كثيرة في هذا الشهر»، مشدداً على أن عمل المحاكم يركز على تعزيز الصلح بين أكثر من طرف «محاكم رأس الخيمة لا تربط جهودها بشهر محدّد، وهي تصنف كدائرة متميّزة تفخر بأنّ نحو نصف القضايا المسجلة لدى المحاكم تنتهي بالصلح، وتصل إلى نحو 46% من إجمالي القضايا، وهذه النسبة تشمل مختلف أنواع القضايا، بما فيها القضايا الأسرية».

وفي الإحصائية السنوية بالحالات والاستشارات الأسرية الواردة لمركز التسامح للإصلاح والتوجيه الأسري لعام 2024، يتبيّن إجمالي الحالات: 1870 حالة بينها 954 حالة تم فيها الصلح والاتفاق، (بما يناهز نصف الحالات)، فيما تم حفظ 368 حالة، وإحالة 415 حالة، و133 حالة قيد التداول.

مجلة كل الأسرة

ورغم عدم وجود دراسة ترصد الارتباط بين قدوم شهر رمضان والصلح العائلي والزوجي، إلا أن الخاطري لا يستبعد أن يشهد شهر رمضان المبارك ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الصلح «لكون طبيعة الشهر الفضيل نفسها تسهم في تقليل المشكلات، والشكاوى، حيث ينشغل الناس بأداء العبادات، ومعايشة روحانيات الشهر الفضيل، بحيث نرى بعض الحالات الأسرية تنحو باتجاه التهدئة خلال رمضان، ما يسهم في تقريب وجهات النظر، وتعزيز منهج الصلح».

ويشرح الخاطري آلية العمل المنهجي، حيث إنّ «فِرق العمل في المحاكم خضعت لتدريبات مكثفة، واكتسبت خبرات عملية، ما مكّنها من امتلاك المهارات اللازمة لإدارة عمليات الصلح، وإقناع الأطراف المتنازعة، ودور المصلحين الأسريين لا يقوم على استغلال المناسبات، بل على دراسة القضايا المعروضة، وتحليل حالات المتنازعين وفقاً لأبعادهم الدينية والاجتماعية، والتقاليد السائدة».

وفي ما يتعلق بـ«عام المجتمع» الذي أعلنه صاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله، يلفت الخاطري إلى مبادرات يتم العمل عليها لدعم الاستقرار الأسري والمجتمعي «فرق العمل المختصة تعمل على إعداد برامج وخطط تدعم مبادرة عام المجتمع، وتسهم في تحقيق أهدافها خلال هذا العام، وهناك قدرة على وضع مقترحات شاملة تتعلق بكل مجالات العمل القضائي، حيث سيتم نشر نتائج هذه الجهود وإعلانها رسمياً، بما يعزّز وعي الشباب والمجتمع بأهمية الصلح والاستقرار الأسري».

مجلة كل الأسرة

زوجة تتراجع عن قضية الخلع مع قدوم رمضان

بدوره، شهد المحامي المستشار محمد بوهارون، الكثير من حالات الصلح خلال شهر شعبان، ومع قدوم شهر رمضان، ويروي عن «زوجة رفعت قضية خلع في إحدى محاكم الدولة، وكان الموجّه الأسري الذي تولى ردم الهوة بين الزوجين قد وضع في مكتبه لوحة كتب عليها قوله تعالى «ولا تنسوا الفضل بينكم»، ما جعل هذه المرأة تتأمل في معاني هذه الآية، وتتذكر الكثير من المواقف الجميلة لزوجها، والكثير من المحطات التي تشاركاها معاً، ما قادها إلى التراجع عن قرارها، وتزامن ذلك مع بداية الشهر الفضيل».

ويرى المستشار بوهارون أن «الصلح في رمضان يصبّ في مصلحة التماسك الأسري ونبذ الخلاف، بخاصة في الشهر الفضيل، شهر البركة. نحمد الله أن أكرمنا بولاة أمر يسعون لبناء أسرة متماسكة، ومجتمع آمن. ويسعدنا إعلان صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، تخصيص عام 2025 ليكون «عام المجتمع» في دولة الإمارات تحت شعار «يداً بيد»، في مبادرة وطنية تجسد رؤية القيادة تجاه بناء مجتمع متماسك، بدءاً من الأسرة»، لافتاً إلى أّن «هذه المبادرة تعزز الروابط داخل الأسر والمجتمع، من خلال تسخير وتذليل الصعاب لبناء أسر قوية قادرة على تحمّل أعباء بناء المجتمع، إضافة إلى الحفاظ على التراث الثقافي المتمثل في الإصلاح».

مجلة كل الأسرة

ومن خلال تماسه مع قضايا وخلافات أسرية، يؤكد المستشار بوهارون أنه يعايش الكثير من حالات الصلح مع قرب شهر رمضان «فالكثير من الأزواج وحتى الأفراد يعمدون إلى تصفية قلوبهم، والآثار السلبية لخلافاتهم، ويباشرون رحلة الصلح مع الذات، ومع الآخرين، وأولى تلك المبادرات تكون مع شريك الحياة، والكثير من الحالات واكبت شهر رمضان المبارك خلال السنوات الماضية».

وهذا التوجه يتلمسه بوهارون خلال الشهر الفضيل، ويتماهى مع حديث الرسول، صلّى الله عليه وسلّم «إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم»، لافتاً إلى أن التذكير بالخير والسعي إلى الصلح ونبذ الخلاف من أسس مجتمعاتنا العربية، ومجرّد التذكير فقط، يليّن القلب، ويطرح الشحنات السلبية، ويعزز الاعتذار، لا سيّما بين الأزواج.

واللافت أن المستشار بوهارون يلحظ خلال هذه الشهر أن «الرجل، في كثير من الحالات، يبادر بإصلاح العلاقة، ويتنازل أحياناً عن أمور كبيرة، كما أن المرأة، بخاصة عندما تلوح مناسبة، أو تتذكر موقفاً يُذكّرها بالله، فإنها تدرك أن الأمور باتت محسومة نحو الصلح».

مجلة كل الأسرة

شهر رمضان يقرّب بين الأزواج

ويبقى أن شهر رمضان هو فرصة للصلح بين الأزواج، وتصفية القلوب، وهو ما يؤكده الدكتور إسماعيل البريمي، مأذون شرعي ومستشار أسري، «من خلال خبرتي في مجال الاستشارات الزوجية لأكثر من 15 عاماً، لاحظت أن رمضان يمثل محطة هامة للأزواج لمراجعة علاقاتهم، وتصفية القلوب من الشحناء. فرجب هو شهر الزرع، وشعبان هو شهر السقي، ورمضان هو شهر الحصاد، لذلك ينبغي على الأزواج استغلال هذا الشهر لتعزيز الروابط الأسرية وإعادة روح الألفة بينهم».

ويوضح «شهر رمضان، لكونه شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، يشجع الأزواج على مراجعة أنفسهم، والابتعاد عن المشاحنات، كما تشجع القيم الإيمانية والروحانية خلال رمضان على التسامح والتقارب بين الأزواج، ما يهيئ لهم جواً مناسباً لإصلاح العلاقات الزوجية».

ويجد د. البريمي أنّه لا بد من مراعاة ثلاثة أمور:

  • الوقت المناسب: رمضان هو الأمثل، حيث تكون النفوس أهدأ وأكثر استعداداً لتقبل الطرف الآخر والحوار معه بهدوء.
  • المكان المناسب: طبيعة الشهر تجعل الأزواج أكثر تواجداً داخل المنزل لفترات أطول، وعلى مائدة الإفطار، ما يتيح لهم تصفية الخلافات وتعزيز الروابط الأسرية.
  • لأسلوب المناسب: يؤثر رمضان إيجاباً في سلوك الإنسان، إذ يصبح أكثر هدوءاً في تعامله وحواره، ما يسهم في تحسين العلاقة بين الزوجين.
مجلة كل الأسرة

نصائح لإذابة الجليد الزوجي في رمضان

يؤكد الدكتور البريمي، أن روحانيات شهر رمضان المبارك تلعب دوراً كبيراً في تقارب الأزواج وإصلاح العلاقات الزوجية، مستشهداً بإحدى الحالات «جاءتني استشارة من امرأة صوّامة، مصلية، متصدقة، لكنها غير راضية عن زوجها. سألت زوجها «هل أنت راضٍ عني؟»، فأجابها «نعم، أنا راضٍ»، بيد أنها شعرت بأن إجابته كانت مجرّد مجاملة. فقلت لها «نحن الآن في شهر شعبان، فكيف تكونين بهذه العبادات والطاعات، بينما زوجك يحمل في قلبه شيئاً عليك؟»، وما كان إلا أن هدأت النفوس وتم فتح باب للحوار والنقاش.

يعقّب «مثل هذه الحالات تتكرر كثيراً، حيث يعيش الأزواج خلافات مستمرة، لكن مع دخول رمضان يقررون استغلال أجوائه الروحانية للتقارب عبر العبادات المشتركة، مثل صلاة التراويح، وقراءة القرآن، ما يسهم في إذابة الجليد، وكسر الحواجز العاطفية بينهم. وبمرور الأيام، يتمكنون من حل خلافاتهم، والعودة إلى حياة زوجية مستقرة».

ويخصص د. البريمي وقتاً للاستشارات الزوجية «شهر رمضان يشجع الأزواج على استثمار هذه المعاني الإيمانية والروحانية لتعزيز علاقاتهم الزوجية...

ونحن نشجعهم على استغلال هذا الشهر في التقارب، والتفاهم، والترابط، من خلال عدة أمور، أبرزها المشاركة في العبادات»، موجهاً بعض النصائح للأزواج بأهمية:

  • الاستعانة بالله عز وجل: الالتزام بالعبادات، والصلاة، والصوم والدعاء.
  • طلب المشورة من أهل الخبرة والمعرفة: يساعد على حلّ المشكلات بطرق علمية ومدروسة.
  • الابتعاد عن المؤثرات السلبية: تجنب الأفراد مصدر التوتر أو تذكّر الماضي.
  • تجنّب المواقف التي تزيد من حدة الخلاف كانشغال الزوجة عن الزوج وغيرها.
  • التركيز على الإيجابيات واللحظات الجميلة في العلاقة.
  • استثمار هذا الشهر وإكرامه بمشاعرنا، وأوقاتنا، وأموالنا.