10 فبراير 2025

ديفيد لينش.. مخرج الحكايات غير المتوقعة والشخصيات الغريبة

ناقد ومؤرخ سينمائي، وُلد وترعرع في بيروت، لبنان ثم هاجر إلى الغرب حيث ما زال يعيش إلى الآن معتبراً السينما فضاء واسعاً للشغف

مجلة كل الأسرة

ديفيد لينش، ليس المخرج الوحيد بين المخرجين المستقلين الفعليين الذين أنجزوا أعمالهم البديعة في فترة سابقة كانت أكثر ترحيباً بأعمالهم، لكنه من أكثرهم انفراداً فنياً، وكأسلوب كتابة وعمل. رحيله عن 78 سنة يترك فراغاً حسب هذه القراءة في أعماله.

 وُلد في بلدة في بعض جبال ولاية مونتانا اسمها ميسولا، سنة 1946ن لكنه ترعرع حيثما استقر والداه للعمل. عاش في ولايات فرجينيا، وأيداهو، ونورث كارولاينا، وواشنطن قبل أن ينتقل للعمل والعيش في لوس أنجليس سنة 1970.

مجلة كل الأسرة

في عام 1967 أنجز فيلمه القصير الأول Six Men Getting Sick. ذلك الفيلم، لمن تتاح له مشاهدته اليوم، فيه كل بذور وجذور الأسلوب الفني للمخرج لينش. تبع ذلك بعدد كبير من الأفلام القصيرة وصولاً، سنة 1977، إلى أول فيلم طويل له، وهو Eraserhead.

هذا الفيلم وضعه، ولو بعد سنوات من عروضه الأولى، على قائمة أهم المواهب الجديدة في تلك الفترة. دراما من الهواجس التي تحمل سِمة أفلام الرعب، لكنها تنحو إلى ما وراءها، إلى التجريب من ناحية، وإنتاج عمل غير سهل التوصيف، من ناحية أخرى، من حيث إنه يحمل هاجساً هائماً من الصعب التعبير عنه. ‫«إرازرهَد»: شخص يعمل في منطقة صناعية ملوّثة، ويؤم بيت صديقته القشيب، وهي أم طفل يصرخ، بلا توقف، من ألم مبرح، أو حاجة غير معروفة. من المحتمل أن يكون هذا الطفل وُلد مشوّهاً، أو ربما هو ليس بشراً في الأصل. تنتقل الأم مع طفلها إلى منزل صديقها، لكنها ستغادره بسبب غرابة تصرّفاته، وهواجسه.

مجلة كل الأسرة

صدمة فيلم Eraserhead

في الواقع، كل شيء في هذا الفيلم الذي صوّره بالأبيض والأسود عبارة عن هواجس وكوابيس، في رحلة رجل ربما كان يبحث عن معنى لحياته التي تشابه الأماكن المعتمة، والفقيرة الحالكة التي نراه فيها. هذا فيلم رعب في الأساس، مع مشاهد سوريالية. لكن لينش يمتنع عن اختيار مشاهد دون أخرى، لإحداث صدمة. على العكس، يحقق هذا الفيلم كصدمة واحدة طويلة. التصوير بالأبيض والأسود يتناغم مع كل معطيات الفيلم، وغاياته، مساهماً في خلق صورة موحشة. على ذلك هناك فن في كل ما نراه. إنه ليس مجرد فيلم قاتم وكابوسي، لأجل أن يكون كذلك، بل هو تفعيل خاص لرؤية سوريالية، كما قد يعمد إليها رسّام ينتمي إلى عصر ما بعد الحداثة.

كلّف الفيلم 100 ألف دولار، وجلب من عروضه الليلية (إذ لم يتم اعتباره عملاً يستقطب جمهور الحفلات العادية)، 7 ملايين دولار. السمعة التي ساعدت على انتشاره هي غرابته، لكن هذه الغرابة لم تقنع كثيرين من نقاد ذلك الحين بأنهم يشاهدون فيلماً يعلن ولادة موهبة.

كتبت عنه صحيفة «ذَ نيويورك تايمز» (بعد ثلاث سنوات من عرضه!) أنه ليس فيلم رعب، بل «فيلم مُطوّل». مجلة «فارايتي» وجدته «تجربة ذات ذوق مريض». ولعل ناقد «ذَ هوليوود ريبورتر»، جوردَن مينتزر، أصاب الهدف قبل يومين، عندما كتب في رثاء لينش «إنه كما لو أن لينش لمس شيئاً أراد الجمهور مشاهدته بما فيه من غرائب».

المؤكد، والذي فات معظم النقاد حينها، أنه لم يعمد إلى منوال قصّة يستطيع كثيرون استخدامها لشرح الفيلم.

مجلة كل الأسرة

اختار The Elephant Man قبل قراءة السيناريو

لم تعترف هوليوود بنجاح «إرازرهَد»، ولم تكترث لإيراد تصرفه في أسبوع تصوير واحد لأحد أفلامها متوسطة الحجم. ما أنقذ وضعه هو أن أحد منتجي شركة مل بروكس المستقلة، واسمه ستيوَرت كورنفلد، كان شاهد «‫إرازرهَد» وخرج منه متيّماً. عرض على لينش بضعة مشاريع اختار المخرج منها «رجل الفيل» (The Elephant Man) بمجرّد ذكر ملخص له. تناول الفيلم حكاية حقيقية وقعت في لندن، مطلع القرن التاسع عشر، مفادها حالة رجل مشوّه الوجه، بفم يتدلى منه ما يشبه خرطوم صغير، اسمه ميريك (جون هْرْت)، وجده جرّاح شاب (أنطوني هوبكنز)، في إعلان نشره سيرك يدعو الناس إلى مشاهدة «الرجل الفيل». يأخذ الجراح ذلك الرجل ويضعه في مستشفى خاص لمعالجته، لكن أحد الممرضين يجد طريقة لجني بعض المال عن طريق عرض المريض على من يدفع مقابل زيارته. هذا يجعل حالة المريض أكثر سوءاً، فيهرب من المستشفى إلى السيرك، حيث يتحوّل إلى أحد أنجح استعراضاته.

نال «رجل الفيل» ترشيحاً لأوسكار أفضل فيلم، ونال لينش ترشيحاً آخر كأفضل مخرج، وحظي الممثل البريطاني جون هَرْت بالترشح كأفضل ممثل.

مجلة كل الأسرة

عنف وقسوة فيلم Blue Velvet

تغيّر الوضع بالنسبة إلى لينش، فأسندت هوليوود إليه تحقيق Dune عن رواية فرانك هربرت الضخمة، سنة 1984. لكن قبل ذلك اقترح جورج لوكاس على لينش إخراج الجزء الثالث من «ستار وورز»، لكن لينش اعتذر.

كان هذا أوج تعامل لينش مع المؤسسة الهوليوودية. ليس أنها لم تعمد لتوزيع بعض أفلامه اللاحقة، إلا أن «كثبان» انتمى (كالسلسلة الحالية) إلى الإنتاجات الضخمة، ولو بأسلوب وطريقة تنفيذ لينش.

كان من المفترض أن ينجز لينش جزءاً ثانياً من هذا الفيلم، لكن ذلك لم يتحقق، لأن الفيلم لم ينجز نجاحاً. عوض ذلك أمَّ لينش أحد أعماله التي تنتمي إلى عالمه بشكل كامل، وهو فيلم «مخمل أزرق» (Blue Velvet): هناك عنف وقسوة في مشاهد هذا الفيلم، لكن ضمن معالجة لحكاية تسيطر عليها الشخصيات المتناقضة. قام بالبطولة كايل مكلاكلن (الذي ظهر في أفلام لينش السابقة)، ودنيس هوبر، ولورا ديرن، وإيزابيللا روزيلليني.

مع هذا الفيلم لم يعد هناك من نقد معارض بالحجم السابق. من تلك النقطة وما بعد سبحت أعماله في مياه عذبة، واعتبر النقاد حول العالم لينش كأحد أفضل عباقرة السينما في الثمانينات، وما بعد.

أفلام لينش ليست لمحبي السرد السريع، أو التقليدي. فإلى جانب ما يتخلل حكاياتها من مفارقات غير متوقعة، وما تتضمنه من شخصيات غريبة، هناك الرؤية الخاصة به، والتي يمارسها كما يرغب، وهو الذي يؤمن بأن على المخرج تحقيق ما في ذاته من رؤى وأفكار بالطريقة التي يشعر بها.