جاهدة وهبة: حرصت على أن أكون «برند» وليس «ترند» وأشعر بالمسؤولية لتقديم الموروث

هي «المجاهدة في سبيل الفن الأصيل»، كما قال عنها الكبير «وديع الصافي».. جاهدة وهبة، مُجازة في علم النفس من الجامعة اللبنانية، وفي الغناء الشرقي من المعهد الوطني العالي للموسيقى، وحائزة دبلوم دراسات عليا في التمثيل والإخراج من الجامعة اللبنانية- معهد الفنون الجميلة، وهي عضو في نقابة الموسيقيين المحترفين في لبنان، وفي جمعية الساسيم الفرنسية، كما شغلت منصب رئيسة لجنة الثقافة والبرامج في مجلس المؤلفين والملحنين اللبناني.

حاضرَت جاهدة وهبة عبر العالم في الموسيقى، وأصول الأداء، والإلقاء، وفي اللغة، والشعر العربي وأبعاده في الغناء، ومثّلت لبنان رسمياً في أعرق المؤتمرات والمناسبات، الفنية والثقافية. وتمّ اختيارها عام 2013 من جامعة كامبريدج بريطانيا لتكون من ضمن 2000 شخصية مثقّفة في هذا القرن، وخصَّص عن سيرتها ملف كامل ضمن صفحات معجم الجامعة العالمي، كما كرّمها مهرجان الرّواد العرب برعاية جامعة الدول العربية، كرائدة من رائدات الفن والثقافة في العالم العربي، وأخيراً كرّمتها منظّمة الأسكوا، التابعة للأمم المتحدة، كواحدة من أهم مطربات الشرق الساعيات لنشر الثقافة والأصالة من خلال أعمالهن.
هذا غيض من فيض لفنانة رفضت تقديم التنازلات في سبيل الحفاظ على الموروث الفني الأصيل، وأخيراً قدّمت حفلاً فنياً ضخماً في كازينو لبنان، لمناسبة مرور 50 عاماً على وفاة كوكب الشرق أم كلثوم.

هل كنت تنتظرين هذه المناسبة للإطلال على الجمهور؟
أبداً، فالكل يعرف الظروف التي مرّ بها البلد، وأنا كنت في الخارج، وقمت بجولة فنّية على عدد من الدول ( أثينا، دبي، البحرين، العراق) عاد ريعها للمتضررين من الحرب، وبعد عودتي إلى لبنان رأيت أنه لا يمكن أن يمرّ عام كوكب الشرق الذي أعلنته وزارة الثقافة المصرية، مرور الكرام، فتقرّر إقامة أمسية للمناسبة في كازينو لبنان، من خلال الصالون الأدبي بقيادة المايسترو اندريه الحاج، ولأن تاريخ الحفل كان الثامن من مارس ( يوم المرأة العالمي)، أردنا تسليط الضوء على أيقونات الغناء اللواتي عاصرن كوكب الشرق، حيث تخلّل الحفل محطّات للسيدة فيروز، أسمهان، صباح، وردة الجزائرية، وكذلك على حرصت أن تكون هناك وقفات مع مقتطفات شعرية لشاعرات وكاتبات سبق ولحّنت لهنّ كتحية لهنّ، ولأعمالهنّ الخالدة التي تركت أثرها في تاريخ الموسيقى والشعر العربي، مثل السيدة أحلام مستغانمي، والشاعرة سعاد الصباح، والشاعرة الأندلسية ولّادة بنت المستكفي.
كيف استطعت المحافظة على الأصالة في زمن تلاشت فيه الأذواق؟ وكيف استطعت جذب الجيل الجديد؟
أنا أحمل همّ جذب جيل الشباب إلى منطقة التراث، والشعر، والأدب، لأني أعتبر أن ذوق الشباب وذاكرته هُشّما بعد كل ما مررنا به، ومع الانفتاح الإعلامي والاجتماعي على كوكب الأرض، وتأثيره. لذلك كان عندي دائماً، همّ تقديم موروث ثقافي وحضاري للجيل الجديد بنظرة معاصرة، للاقتراب من دائرتهم، وقد حرصت في هذا الإطار على أن أكون «برند»، وليس «ترند»، بمعنى التمسك بهويتنا الثقافية والحضارية، وليس «ترند» يشبه فقاعات الصابون التي تزول سريعاً، وتتوجّه إلى الغرائز، وهذا يمنح الفن قيمته الحقيقية. لذلك أعتبر أن الصوت الذي منحني إياه الخالق يجب أن يحمل رسالة، وأن يكون امتداداً للموروث الغني الذي نملكه، ونحاول أن نجدّده بروح العصر، ومن هنا شعوري بالمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقي لتقديم الموروث والشعر، على طبق من دهشة وجمال. وفي هذا السياق، ستكون لي سلسلة حفلات ونشاطات أستعرض فيها جزءاً من أعمال وإبداعات العمالقة: فيروز، وديع الصافي، أسمهان، أم كلثوم، إضافة إلى أعمالي الخاصة، والحاني التي قدّمتها لشعراء وشاعرات، وكذلك ستكون لي محطّات فنّية صيفية أخرى، في محاولة لنكون على تماس مع جمهور الشباب.
الفن الأصيل والراقي لا بدّ أن يفرض نفسه ويسود لأنه يمسّ جوهر الإنسان وأعماقه
هل يُمكن تقويم الذوق العام من خلال هذه المحاولات؟
نحن محكومون بالأمل دائماً، وأنا كنت دائماً أقول إن الفن ينهض ويزدهر عندما تكون البيئة السياسية والاجتماعية والأمنية، صحّية، ونحن نعيش ظروفاً صعبة، لا ندري معها إذا كان هناك غد، ولكننا نستبشر خيراً مع العهد الجديد. إن الفن عموماً، وعلى الرغم من كل الأزمات التي نمرّ بها، هو في رأيي الذي يقارع العنف والموت، ويقارع البلادة التي نعيشها، ويأخذنا إلى خشبة النجاة، لنتنفس بحريّة ونقاء. الذوق العام مشكلة صعبة، لأنه يتشكّل عبر الزمن من خلال التفاعل بين الثقافة، والفن، والإعلام، والتغييرات السياسية والاجتماعية، ويتأثر بالموجات التجارية، والسياسات الثقافية والاستهلاكية السريعة، التي نعيشها في هذا الزمن، ولكن في رأيي أن الفن الأصيل والراقي لا بدّ أن يفرض نفسه، ويسود، لأنه يمسّ جوهر الإنسان وأعماقه، ويتجاوز كل شيء آني وعابر. إن الذوق العام لا يمكن أن يكون معياراً مطلقاً للحكم على قيمة الفن، والأهم هو الاستمرار في تقديم فن يحمل جوهراً حقيقياً، ورسالة صادقة، بعيداً عن كل التيارات السطحية السائدة، والزمن يُنصف، وهذا ما نراه في كل الحضارات التي بقيت فنونها، وغاب كل شيء سطحي فيها.
دراستك في علم النفس تداخلت مع عملك الموسيقي لجذب جيل الشباب؟
لا شكّ في أن الدراسة التي اختزنتها وتكثفت في داخلي أعطتني مساحة أكبر لفهم أعمق لما يُحرّك الإنسان من الداخل، وأعتقد أن أيّ شيء نقدّمه للناس، ونمدّ معهم جسراً من الصدق والتواصل الحقيقي لا بُدّ أن يصلهم، ويمسّ أرواحهم، والموسيقى في النهاية هي لغة الشعور، وليست أصواتاً ونغمات، وكلّما تغلغلنا في أعماقها نكون قادرين على التسلل إلى أرواحهم ووجدانهم، والأغنية السريعة قد تؤثّر في مزاج الجمهور لمدة معينة، وتجعلهم يرقصون ويمرحون لفترة قصيرة، ولكن الأغنية التي تذهب أبعد من ذلك تؤثّر في الوجدان أكثر، وتبقى لفترة أطول، وتخلق حالة من الدهشة، والديمومة.
إن الدراسات التقنية والأكاديمية التي قمت بها قادتني للتطّرق إلى المواضيع الاجتماعية، ومواكبة القضايا الإنسانية والوطنية، وربما لذلك قيل إني ألعب على الوتر الحسّاس، ولكن الحقيقة أني حاولت دائماً أن أُشبه نفسي، وأن أبحث عن الصدق والإنسانية في الأعمال التي أُقدّمها، على قاعدة أن الموسيقى قادرة على الشفاء، والتأثير العاطفي بعمق. في كثير من الأحيان يقول لي بعض الحاضرين في حفلاتي «طيّرتينا» إلى مكان بعيد، وبعضهم يقول لي أخرجتنا من ضغوطاتنا اليومية، وأحياناً أسمع أمّاً فقدت ابنها تقول شعرت بتواصل معه في اللحظة التي كنت تغنين فيها، أو عاشقين يقولان لي أنت الطرف الثالث في قصّة حبّنا، ما يحمّلني مسؤولية إضافية، ويدفعني إلى التواصل مع الجمهور بصدق، وإعطاء كل ما عندي بكل حب.

غنيت لـ «أديث بياف»، و«داليدا» وغيرهما، ما يعني أن الأصالة لا تكمن في اللغة..
كنت دائماً أحاول ترجمة الشعر العالمي بطريقة سلسة إلى العربية، وترجمة 15 عملاً لـ«أديث بياف» استغرقت نحو عام، حتى استطعنا إيصال روح «بياف» الحقيقية، وهي روح السهل الممتنع، ونحن في تقديم أي عمل غربي كنّا نحاول تقريب الأعمال إلى مزاجنا الشرق - عربي، من خلال القالب الموسيقي الذي نقدّمها من خلاله، فكنت أحرص دائماً على عدم تهشيم أيّ عنصر جمالي.
كيف ترين الشهرة؟
الشهرة في هذا الزمن ليست سهلة، في ظل ملايين المواقع ووسائل الإعلام، وأن نثبت أنفسنا وسط هذه المعمعة والغوغائية هو أمر مهم، وأنا اعتدت أن أمدّ يد المساعدة لكثير من المواهب الصاعدة، خصوصاً الجيل الجديد، ولم أُحارب أحداً يوماً، ولا كنت جزءاً من المافيات الفنية.
كانت لك محطات مع التمثيل المسرحي وموسيقى الأفلام التصويرية، هل تفكرين في خوض التجربة الدرامية اليوم؟
هذه الفكرة دائماً في بالي، والحالة الفضلى بالنسبة لي أن أُقدّم عملاً متكاملاً في الموسيقى، والغناء، والتمثيل، كذلك أتطلّع إلى عمل موسيقى تصويرية أخاطب فيها اللاوعي عند الناس، أو «تتر» مسلسل يعجبني، مع أني أُفضّل المسرح على التلفزيون، إلّا إذا وجدت عرضاً مغرياً يُضيف إلي، ويُقدّم شيئاً جديداً،، ومختلفاً، علماً بأننا اليوم بصدد التحضير لعمل مسرحي موسيقي أتمنى أن يُبصر النور، أواخر الصيف المقبل.

المسرح على أهميته إلّا أنه يربط الفنان لفترات طويلة إضافة إلى أنه لا يؤمّن الانتشار الواسع الذي يؤمّنه التلفزيون، فهل يمكن لهذا الموضوع أن يجعل الدراما وجهة الفنانين أكثر؟
عندما يكون الإنسان شغوفاً بشيء لا يمكنه أن يتخلى عنه، مهما كانت المغريات، وفي رأيي أن المسرح هو الفن الدرامي الأكثر حميمية وتأثيراً.. إن التفاصيل الحيّة التي نعيشها مع الناس على المسرح تجعل تأثيره أكبر من التلفزيون، لأنه يُلامس الحواس بشكل مباشر من دون وسيط، ويبقى في ذاكرة المتلقي. شخصياً، لم أقدّم في حياتي أيّ تنازلات لأكون حاضرة في المشهد التلفزيوني، ولكني قد أفكر في عمل توازن إذا شعرت بأن هناك عملاً ذا قيمة جوهرية، وإذا حقّق لي انتشاراً أوسع فلن أرفضه بالطبع.