في كل البلاد العربية، على اختلاف مستوياتها الاقتصادية، يعاني كثير من الشباب المقبلين على الزواج- من الجنسين- تداعيات مشكلة المغالاة في المهور، والخروج بها عن مقصود الشرع، على الرغم من نصائح علماء الدين بعدم المغالاة في المهور، والعمل بنصائح وتوجيهات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبرزها «أقلهنّ صداقاً أكثرهنّ بركة».
أخيراً، انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بقصة مهندسة ديكور مصرية أصرّت على الحصول على مهرها بالدولار من عريسها الذي يعمل في إحدى الدول العربية، فاستجاب الزوج، وكان كريماً معها، ومنحها ضعف ما طلبت، حباً واعتزازاً بها، وقال «كل أموالي تحت أمر عروستي الجميلة».
التساؤلات المهمة، والتي تفرض نفسها هنا: هل إكرام الزوجة بمهر كبير يخالف تعاليم الشرع؟ وهل الإسلام حدّد قدْراً معيّناً لمهور النساء لا ينبغي تجاوزه؟ وهل يجوز للزوجة أن تحدّد نوع العملة التي تحصل بها على مهرها؟
تساؤلات كثيرة وضعتها «كل الأسرة» على مائدة عدد من علماء الشرع.. وكانت هذه توجيهاتهم:
لا.. لتحديد المهور
بداية.. ما هي الحكمة من تقرير الشرع مهر للمرأة، وهل وضع سقفاً محدّداً للمهور لمواجهة ظاهرة المغالاة فيها، ولوقف تسلّط وتجبّر بعض أولياء أمور الفتيات في هذه المسألة؟ يجيب د.نظير عياد، مفتي مصر الجديد، والأمين العام السابق لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر «الإسلام شرع المهر احتراماً وتقديراً للمرأة، وتكريماً لها، وإثباتاً لحق من حقوقها، ومهر المرأة ليس حقاً لأسرتها، بل هو ملك خالص لها، ومن حقها أن تتصرف فيه بالطريقة التي تراها مناسبة، من دون أن يشاركها في ذلك أحد، حتى أقرب الناس إليها».
ويضيف «الإسلام جعل المهر واجباً ولازماً في كل زواج، فلا يجوز إتمام زواج من دونه، ولا يملك الآباء، ولا الأمهات، ولا غيرهم، التنازل عن المهر وإتمام الزواج من دونه، لأنه حق للمرأة، وليس حقاً لهم».
أمّا عن الحدّ الأقصى لمهر المرأة، فقال «المهر عطية الزوج لزوجته، وهو على قدر يسار الزوج، وبالتالي، ليس هناك سقف للمهور.. كل زوج يعطي زوجته على قدر يساره، واعتزازه بها، فما يقدمه رجل ثري يختلف، حتماً، عمّا يقدّمه رجل محدود الإمكانات، وكلّه مقبول شرعاً.. لكن هناك توجيهات شرعية، ووصايا نبوية بعدم المغالاة فيه، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أقلهنّ مهراً أكثرهنّ بركة»، لذلك فإن تحديد قدر معيّن للمهر أمر غير مرغوب شرعاً، فالإسلام يترك هذا الأمر لظروف وأحوال كل أسرة، فقد يريد زوج قادر أن يترجم حبه لمن يتزوجها بأن يقدم لها مهراً كبيراً، تسمح ظروفه المادية به، وهذا أمر مشروع ومقبول، والمحظور هو الإكراه على ذلك، أي أن يطلب أولياء المرأة منه أن يدفع الكثير، وليس لديه القدرة على ذلك».
المغالاة في المهور.. سلوك يرفضه الشرع
وعن تداعيات ظاهرة المغالاة في المهور التي تكثر الشكوى منها في العديد من بلادنا، العربية والإسلامية، يبيّن مفتي مصر «هذه مشكلة خطرة، لأنها تقف في طريق عفاف كثير من الشباب من الجنسين، وعفاف الشباب وحمايته من المفاسد الأخلاقية يكونا عن طريق تيسير الزواج لكل الشباب- كل على قدر استطاعته- ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه يقول: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء، «والباءة هنا تعني «مؤنة الزواج»، وهذه المؤنة تختلف من شاب إلى آخر، فالرسول عليه الصلاة والسلام، ينصح ويوجّه هنا بالإقبال على الزواج بمجرد توفّر أبسط مقوّماته، ومغالاة بعض الأسر في مهور بناتها، أو نسائها، تعوق ذلك.. وعلى جميع الأسر أن تدرك أن الإسلام يحرص على توفير مقوّمات الحياة الكريمة والشريفة لكل الناس، ولو وضعنا العقبات والعراقيل في طريق الحلال فسيكون البديل لذلك العلاقات المحرمة التي تنتشر نتيجة التحلّل من القيم والأخلاق الإسلامية، أو نتيجة التضييق على الشباب والفتيات، ووضع عقبات في طريقهم، لا تمكّنهم من تلبية غرائزهم بالحلال».
نصيحة لكل الأُسر
وفي هذا الإطار، يوجّه مفتي مصر نصيحة للأسر التي تغالي في مهور بناتها، قائلاً «على كل الآباء والأمّهات أن يعلموا أن سعادة بناتهم ليست في الأمور المادية، والاهتمام بالشكليات، بل السعادة الحقيقية في الانسجام، والراحة النفسية، والتوافق النفسي والاجتماعي، وتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقياته تؤكد على تسهيل مؤن وتكاليف الزواج، وعدم التشدّد على الأزواج، وإلزامهم بتقديم مهر كبير، أو إعداد جهاز ضخم، فإعفاف الذكور والإناث بأقل المؤن مطلب شرعي، والحق سبحانه وتعالى وعد ـ ووعده حق ـ بإغناء الفقراء، والتوسعة عليهم، سواء أكانوا أزواجاً أم زوجات، فقال سبحانه: «وأنكِحُوا الأيامى مِنكُم والصالِحِين مِن عِبادِكُم وإِمائِكُم إِن يكُونُوا فُقراء يُغنِهِمُ اللهُ مِن فضلِهِ واللهُ واسِع علِيم»، وهذا التوجيه الإلهي فيه دلالة على رعاية الفضيلة وإعلاء القيم السامية في المجتمع».
تداعيات خطرة
من جانبه، يتحدث الفقيه الأزهري د.فتحي عثمان الفقي، عضو هيئة كبار العلماء وعضو لجنة الفتوى المركزية في الجامع الأزهر، عن تداعيات ظاهرة المغالاة في المهور، وطرق المواجهة، من وجهة نظره، مبيّناً «المغالاة في المهور أصبحت مشكلة لها تداعيات، اجتماعية ودينية، خطرة، فهي تصيب الشباب المقبلين على الزواج بالإحباط، وتفشل مشروعات زواج بُنيت على حب ورغبة حقيقية بين الطرفين، وكثيراً ما سمعنا وقرأنا عن فتيات انتحرن، أو تركن بيوت أسرهنّ، وهربهنّ نتيجة تعسّف الأسرة، وفرضها متطلبات مادية يعجز عنها الراغب في الزواج من أبناء الأسر المكافحة، وهم يمثلون الأغلبية من الشباب في عالمنا العربي».
ويضيف «الشاب الذي يعجز عن الزواج بسبب تحميله ما لا يطيق أمامه طريقان:
الأول: الإحباط، والعزوف عن الزواج نهائياً، والاستسلام لليأس، وما يستتبعه من أمراض نفسية، ومشكلات أسرية واجتماعية، وقد يسبب أذى لنفسه نتيجة حالته النفسية السيّئة.
الثاني: الانغماس في عالم الرذيلة، ولها أدواتها المتاحة لبعض شبابنا اليوم، وبذلك نخسر الشاب، ونُسهم في تدهور حالة المجتمع أخلاقياً، لأن الغريزة الجنسية هي أقوى غريزة تسيطر على الإنسان، بخاصة في مرحلة الشباب، وتلبية مطالبها عن طريق الحرام إفساد للمجتمع كله».
وإلى جانب هذه التداعيات الخطرة، على الفرد والمجتمع، من وضع عراقيل أمام زواج الشباب، يؤكد عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر أن المغالاة في المهور هي السبب الأول في مشكلة العنوسة، وتأخر زواج الفتيات، فأمام كل شاب محبط من تكاليف الزواج المُبالغ فيها، فتاة ضاعت عليها فرصة الزواج.
طرق مواجهة غلاء المهور
ويحدد د. فتحي عثمان الفقي طرق مواجهة كثيرة ومتنوّعة لهذه الظاهرة، أبرزها:
- نشر الوعي الديني والمجتمعي بأهمية الزواج للشباب، ومدى الحاجة النفسية إليه بمجرد البلوغ وتيسّر أسبابه، وهذا يفرض جهداً مضاعفاً على علماء الدين، والمرشدين النفسانيين والاجتماعيين، كما يتطلب تسليح شبابنا، من الجنسين، بتعاليم الإسلام الخاصة بكيفية اختيار شريك الحياة.
- مساعدة الشباب المقبلين على الزواج من خلال صندوق يتم دعمه من أموال الدولة، أو القادرين، ورجال الأعمال، لتوفير متطلبات الزواج الضرورية، من مسكن وأثاث، وغير ذلك، لكل من تحول ظروفه المادية دون تحقيق ذلك.
- نشر التوجيه النبوي الشريف «أقلهنّ مهوراً أكثرهن بركة» وتبنّيه، إعلامياً وثقافياً، على كل المستويات، حتى نحمي شبابنا من الانحراف والمشكلات النفسية نتيجة العنوسة، والعزوبية، وحتى لا يتجه الشباب نحو العلاقات المحرمة التي أصبحت لها طرق ومداخل كثيرة، في مجتمعاتنا المعاصرة.
المهر.. بأية عملة
وحول جواز طلب الزوجة مهرها بأيّ عملة تريدها، يوضح عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر «المهر منحة من الزوج لزوجته، ولا يوجد حرج في تقديمها بأية عملة ترغب فيها الزوجة، وإن كان الأفضل أن تحصل عليها الزوجة بعملة وطنها، اعتزازاً وتقديراً لهويتها الوطنية».
عادات وتقاليد بالية
أما د. عبدالله مبروك النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، فيؤكد أن العادات والتقاليد والمفاهيم الخاطئة المتوارثة، هي التي تقف في طريق تيسير الزواج لكثير من شبابنا «الزواج في منظوره الشرعي لا تكلّف فيه، ولا عسر، ولا مشقة، فتعاليم الإسلام تحث على التيسير، وعدم التكلّف، وترفض تماماً، المغالاة في المهور، كما ترفض كل صور التفاخر والمباهاة في تكاليف الزواج، والاحتفالات المصاحبة له، وهي بذلك تفتح الباب أمام راغبي الزواج وطلاب العفة ليكوّنوا أُسراً طاهرة كريمة، وفق تعاليم وآداب وأخلاقيات الإسلام. لا حرج، من الناحية الشرعية، في أن يقدّم الزوج ما يشاء من الأموال والهدايا لزوجته عند الزواج، لكن من دون إكراه له على ذلك، ومن دون أن يتخذ من ذلك وسيلة للتفاخر والتقليد الأعمى للآخرين».
ويضيف «البعض يتفاخر بكثرة الصداق لكي يتحدث عنه الناس، وفي ذلك رياء، والزواج الذي يقوم على التفاخر والمظاهر الشكلية يخلو من البركة، وسرعان ما تعصف به الأزمات فيه. لذلك نصيحتنا للجميع العودة إلى توجيه الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، الذي يبيّن فيه أن «خير الصداق أيسره»، وأن «أعظم الزواج بركة أيسره مؤونة».. وعندما سأل رسول الله، عليه الصلاة والسلام، رجلاً تزوج وقال له على كم تزوجتها، قال: على أربع أواق، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عِرق هذا الجبل؟ وكان عمر رضي الله عنه، ينهى عن المغالاة في المهور، ويقول ما تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا زوّج بناته بأكثر من أربعمئة درهم، وقد زوّج سعيد بن المسيب ابنته على درهمين».
يغنيهم من فضله
وخلاصة كل ما تقدم يقدمها لنا العالم الأزهري د.أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، بالكلمات التالية «الإسلام حثّ على الزواج، وحذّر من وضع عراقيل في طريق تلبية نداء الغريزة الجنسية، لكل من الرجل والمرأة، بطرق مشروعة، ولا يوجد دين دعا إلى الزواج، وحثّ عليه، ورغّب فيه، كما فعل الإسلام، والإسلام لم يفعل ذلك إلا لتحقيق مصلحة الإنسان ـ رجلاً كان أم امرأة ـ ففي الزواج عصمة للشباب من الزلل والخطيئة، وحفاظ لحياته وخطاه من الانزلاق في وحل المعصية، والرذيلة، وفيه حفظ للعين من النظر إلى ما حرّم الله. فالنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وفي الزواج حصانة للشرف، وحماية للأخلاق.. ثم هو إلى جانب كل هذا، فيه المودّة، والسّكن، والرحمة، والسعادة، والطمأنينة للأسرة، والأمان والاستقرار للبيت الزوجي، وانتشار وإكثار للنوع الإنساني، وبقائه، وحفظه، وهو طريق العفاف، وقد أرشد الله تعالى العاجزين عن مؤن النكاح إلى العفة، ووعدهم بعد ذلك إن عفوا أنفسهم بأن يغنيهم من فضله، لأن فضله أولى بأهل العفة الصالحين.. قال تعالى «وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله». فإذا لم يستطع الشاب الزواج، وعجز عن مؤن النكاح، فعليه بالصوم، فهو أهم وسائل الاستعفاف، لأنه يكسر الشهوة والأهواء، وبالصيام يتعود الإنسان على الفضائل، والبعد عن الرذائل لأنه يهدف إلى تقوى الله تعالى.
ولأهمية الزواج ونظراً لأنه حاجة نفسية واجتماعية، ومطلب ديني أيضاً، جعل الإسلام الامتناع عن الزواج مع القدرة عليه معصية، وخروجاً عن المألوف، لأن الزواج سنّة الله سبحانه وتعالى، وهو يمثل حاجة ضرورية لكل إنسان طبيعي، ولذلك لا يجوز لأحد أن يعزف عنه تحت مبرّرات واهية، والقدرة على الزواج ومؤنه أمر نسبي، وليس المراد به كثرة العرض، والمال، والعقار، حتى لا يتذرّع كثير من الشباب، أو الأكثر من أهل الفتاة، بالرغبة في كثرة المال والثراء، لأن الله سبحانه وتعالى، قد وعد راغبي الزواج الذين يحققون شرع الله وسنّته ودعوة نبيّهم، بأن يغنيهم من فضله، وأمر الله تعالى الذين لا يجدون تكاليف الزواج أن يعفوا أنفسهم حتى يغنيهم الله من فضله.. ومن هنا، فإن كل أب يغالي في مهر ابنته، ويعيق زواجها بمطالبه المادية هو عدوّ لابنته، وهو في نظر الإسلام: آثم ومرتكب لمعصية».
اقرأ ايضاً: قصص ومآسي تثبت أن المغالاة في المهر ومؤخر الصداق تحدّ من استقرار الأسرة