02 مارس 2025

التكاسل عن العمل في رمضان.. هروب من عبادة

محرر متعاون

مجلة كل الأسرة

شرع الله سبحانه وتعالى الصيام لتقوية إرادة وعزيمة المسلم، وترويض نفسه وتعويدها على الصبر والتحمّل، ولأداء ما عليه من عبادات دينية، والتزامات دنيوية على أكمل وجه، وفي أشد الظروف وأصعبها، وقد فطن صحابة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، إلى ذلك، وأدركوا جوهر الصيام، فارتبط رمضان لديهم بأشقّ ألوان العمل، وهو الجهاد، وكان شهر رمضان موسماً للانتصارات الإسلامية الكبرى، ومنها غزوة بدر، وفتح مكة.

فكيف ينظر الإسلام إلى سلوكات بعض الصائمين الذين يتكاسلون عن أداء وظائفهم، ويتباطؤون في أعمالهم، ولا يحققون معدل الإنتاجية المطلوب، تحت ستار الصوم، وبحجة أنهم صائمون؟

مجلة كل الأسرة

العمل يضاعف أجر الصوم

في البداية توجّهنا بهذا السؤال إلى العالم الأزهري د.علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، الذي أجاب قائلاً «لو يدرك هؤلاء أن العمل وأداء الواجبات الوظيفية والاجتماعية في رمضان يضاعف من أجر وثواب صومهم ما فكّروا في التكاسل عن العمل، والهروب منه في رمضان. فهذا السلوك ضد فلسفة رمضان وحكمته، فتحمّل المشاق ومقاومة الكسل، والتعوّد على الانضباط كلها دروس يجب أن نستفيد منها خلال هذا الشهر الفضيل، ولذلك ننصح الذين يفكرون في التهرّب من العمل، أو تقليل جودته في رمضان بالكفّ عن ذلك، فالعمل في حدّ ذاته عبادة، وهو على قدم المساواة مع الصلاة والصيام، والفرار من تكاليف العمل هروب من عبادة إسلامية هامة، فالعمل بجد، واجتهاد، وإخلاص، مع الصيام يزيد الثواب، ويرفع الأجر عند الله، ويعلي من قيمة العمل».

عبادة.. وعمل

يرى البعض أن وصف رمضان بأنه «شهر الطاعة والعبادة» يعني أن يتفرغ للعبادة في رمضان، ويتخلى عن أعماله وواجباته الحياتية، ويردّ الفقيه الأزهري د.نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر الأسبق، على هؤلاء بالتأكيد على أن «العبادة والطاعة في فلسفة الإسلام ليس لها مواسم، ومناسبات تؤدى فيها، ثم تهمل بعد ذلك، فالمسلم في عبادة وطاعة لله في كل لحظة من لحظات حياته، لكن اختص الله بعض الأيام ليكون أجر العبادة والطاعة فيها مضاعفاً، ومن هذه الأيام شهر رمضان المبارك، الذي يجب الاحتفاء به، لأن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، احتفى به، وخصّه ببعض العبادات، مثل الاعتكاف وصلاة التراويح، وحث فيه على طاعات أخرى مثل قراءة القرآن ومدارسته، لأنه الشهر الذي كرّمه الله بنزول القرآن الكريم فيه.

ولذلك نحث المسلمين جميعاً، على أداء عبادات الإسلام على الوجه الأكمل في هذه الأيام المباركة، وننصح من يهمل في الصلاة بأن يراجع نفسه، فلا معنى لصوم بلا صلاة، ومن يؤدي العبادتين ويكون مطالباً بالزكاة عليه أن يحرص عليها، ولو كان متأخراً في أداء ما عليه في هذه الفريضة، فليس هناك أعظم من شهر الخير والعطاء لكي يفي بما عليه، وفقراء المسلمين منتشرون في كل مكان».

مجلة كل الأسرة

لا حرج في السهر.. ولكن بضوابط

نرى البعض في هذا الشهر الفضيل لا يستطيعون تنظيم أوقاتهم على النحو الصحيح، فيسهرون في ليالي رمضان للسّمر، ويذهبون إلى أعمالهم كسالى، وغير قادرين على العمل. ويبيّن د.نصر فريد واصل أن «المسلم مطالب بتنظيم أوقاته وتوزيعها بين العبادة، والعمل، وتلبية متطلبات النفس، من الترفيه النظيف المفيد طوال الوقت، وعندما يفعل الإنسان ذلك يستطيع أن يوازن بين كل الواجبات المطلوبة منه، ويحقق متطلبات نفسه. وإذا قضى المسلم ليل رمضان في الطاعة والعبادة والقيام فهذا شيء محمود، وإحياء هذه الليالي يجب أن يكون بالأمور المباحة الحلال، فالسهر في هذه الأمور جائز شرعاً، ومطلوب، لكن ذلك لا يعطي المسلم رخصة في التقصير في عمله، ففي رمضان يجب أن يكون أكثر تميزاً في كل سلوكاته، حتى يجني ثمرة صيامه وقربه إلى الله، وعلى المسلم أن يضاعف إنتاجه في رمضان ليوفي هذا الشهر الكريم حقه، ولا نلصق به التهم والظواهر السلبية، زوراً وبهتاناً.

وأنا أقول لمن يقضون ليالي رمضان في مشاهدة المسلسلات والبرامج الترفيهية: تذكّروا أن شهر رمضان أعظم فرصة لمراجعة النفس، وتهذيب السلوك، والتقرب إلى الله بكل صنوف الخير، ولا ينبغي أن يفوت المسلم على نفسه هذه الفرصة، وهنا لا يكفي الالتزام بفريضة الصوم لكي يؤدى الإنسان ما عليه في رمضان، كما يظن البعض، بل يجب أن تتكامل فريضة الصوم مع باقي العبادات، طوال هذا الشهر الكريم، ولذلك أذكّر هؤلاء الذين يقضون ليالي رمضان أمام التلفاز والسهرات الرمضانية، بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه».

أجر إضافي على إجادة العمل

هناك مشكلة في حياة بعض الأشخاص حيث يهدرون أوقاتهم في ما لا يفيد، وبالتالي تقل إنتاجيتهم، سواء في رمضان، أو غير رمضان.. فما توصيف هذا السلوك في ميزان الإسلام؟ يوضح د.محمود الصاوي، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر «إجادة العمل قيمة يحرص عليها الإسلام، فكل من يؤدي عمله بكفاءة وإخلاص له أجر عند الله، طالما كان العمل مشروعاً ومفيداً للمجتمع، مع أنه يأخذ أجراً مادياً على عمله، فالله يحب الذين يحسنون أعمالهم، ويجيدون العطاء.

لذلك يجب أن يكون للوقت قيمته في حياة المسلم، فلا يتكاسل عن عمل واجب عليه، ولا يضيع وقته في اللهو، والعبث، ولا يجلس في بيته، أو مكتبه طاقة معطلة عن العمل والإنتاج، ولا يهدر وقته في أعمال غير مفيدة، وقاتلة للوقت، فرسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، يحث المسلم من خلال العديد من التوجيهات النبوية الكريمة، على ضرورة استغلال كل لحظة من حياته لعمل الخير، كما أنه، صلى الله عليه وسلم،  ينبهنا إلى ضرورة الوعي بالزمن، ويحثنا على استغلال كل دقيقة من عمرنا في ما يعود علينا بالنفع في دنيانا/ وأخرانا، ويحذرنا من إهدار الوقت في ما لا يفيد. إنه يعلّمنا أن حياتنا لا يمكن أن تستقيم، ومشكلاتنا لا يمكن أن تحل، ومجتمعاتنا لا يمكن أن تنهض وتتقدم، ونحن نهدر أوقاتنا في اللهو، والعبث.. فالمسلم الحق هو الذي ينظم وقته بين الواجبات الدينية والواجبات الدنيوية، وهو الذي يعطي كل ذي حق حقه، من دون أن يفرط في جانب على حساب الجوانب الأخرى».

مجلة كل الأسرة

مبررات يرفضها الشرع

ومن الأمور التي نراها أحياناً في مجتمعاتنا الإسلامية أن البعض يذهب إلى العمل ويتهرب من واجباته عن طريق قراءة القرآن، أو قضاء وقت أطول في أداء الصلوات.. وعن هذه السلوكات وأمثالها، يقول د.الصاوي «هذا تحايل يرفضه الشرع، أداء الصلوات في وقتها، سواء في رمضان أو غير رمضان، لا يعطل العمل، فأداء صلاة الظهر- وهي الصلاة الرئيسة التي تتخلل وقت العمل- لا تستغرق أكثر من ربع ساعة، وهذا وقت لا يعطل العمل، بل لها منافع ومكاسب تتمثل في تنشيط ذهن المصلي، وتجديد نشاطه البدني، وهذا مفيد لوقت العمل. وأداء الصلاة في وقتها متاحة لمن تسمح ظروف عمله بذلك فقط، وإذا لم تسمح طبيعة عمل الموظف بأداء الصلاة في وقتها، فليس مطلوباً منه أن يصلي إلا بعد أن ينتهى من عمله، فدين الله يسر لا عسر».

الأجر على قدر المشقة

هل يتساوى أجر الصائم المُجدّ في عمله مع أجر الكسول الذي يتهرب من أداء واجباته؟ توضح أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية «بالتأكيد أجر الصائم المّجد في عمله، الحريص على آداب وأخلاقيات الصوم، رغم ما يتعرض له من تعب ومشقة، أكثر من أجر الصائم الكسول النائم في بيته معظم ساعات الصوم، أو الذي يهدر أوقات الصوم مع وسائل اللهو والعبث، فالصوم ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، وباقي المفطرات، لكنه صيام وهجر لكل ما نهى الله عنه، ولكل ما يشغل الإنسان عن واجباته الوظيفية، والاجتماعية، والإنسانية. والأجر والثواب يتفاوتان في عبادة الصيام بطول النهار، أو اشتداد الحر فيه، أو القيام بعمل فيه نَصَب يفوق غيره من الأعمال؛ كأصحاب المهن الشاقة، ونحوه، وهذا ما قرَّره الفقهاء، إلا أن ذلك مرتبط بإخلاص النية لله عز وجل في العبادة.

والصيام عبادة من أجل العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، وهو من أعظم أسباب مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، فرضاً كان الصيام أو نفلاً؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من صام رمضان إيماناً واحتِساباً غُفِر له ما تقدّم من ذنبه». فالصيام المستوفي شروطه وأخلاقياته يغفر الذنوب، ويمحو الآثام.. وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «من صام يوماً في سبيل اللَّه بَعَّدَ اللَّه وجهه عن النّار سبعين خريفاً»، متفق عليه.

فإذا صاحبت الصيامَ مشقة لازمة؛ بحيث لا يتأتى القيام به إلا مع تحمّل هذه المشقة؛ كشدّة حرٍّ، أو طول يوم، أو القيام بعمل، فإن الأجر والثواب يكون حينئذ أعظم وأفضل؛ لما ورد عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لها في عمرتها: «إِنّ لكِ من الأجر قدْر نصَبِك ونَفقتك».

المشقة المصطنعة.. تنطع

ولكن هل قاعدة «الأجر على قدر المشقة» تتحقق حتى لو كانت المشقة مصطنعة، بمعنى أن يتعمد الإنسان أن يتعرض لمشقة لا ضرورة لها من أجل زيادة أجر الصوم؟ تجيب دار الإفتاء المصرية «الإسلام لا يقر السلوكات المصطنعة، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وديننا يعتمد التيسير منهجاً ثابتاً في التعامل مع العبادات عموماً، سواء أكانت صلاة، أو صياماً، أو حجاً. فليس مطلوباً أن يعرّض الإنسان نفسه لمشقة مصطنعة طمعاً في المزيد من الأجر، والله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان على قدر إخلاص نيته في كل عمل يعمله، بخاصة في أمور العبادات.

والمقصود بالمشقة هنا: المشقة التي لا تنفك عن العبادة، وهي التي رتب عليها الشرع الأجر العظيم، والثواب الجزيل، عن غيرها من العبادات الأخرى التي لا توجد فيها مشقة؛ إذ المشقة ليست مقصودة شرعاً لذاتها، وإنما إذا جاءت تبعاً لمطلب شرعي أُجِر الإنسان عليها، وإذا ما قصد الإنسان إدخال المشقة على نفسه فهذا أمر نهى عنه الشرع الحنيف، ووُصِف صاحبه بالمتنطّع، قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً. أي: المتعمقون، المتشدّدون، المُغالون، المجاوزون الحدود في أفعالهم، وأقوالهم.

والخلاصة، أن الأجر والثواب يتفاوتان في عبادة الصيام بطول النهار، أو اشتداد الحر فيه، أو القيام بعمل فيه تعب وإجهاد يفوق غيره من الأعمال؛ كأصحاب المهن الشاقة.. ونحوه، إلّا أن ذلك مرتبط بإخلاص النية لله عز وجل في العبادة، وعدم قصد إيقاع عين المشقة ذاتها».

اقرأ أيضاً:
 ما المعنى الشامل للعبادة؟ ومتى تكون العبادة شكلية؟
- ماذا كان يفعل رسول الله في شهر رمضان؟