
دائماً تأتي آداب الإسلام وضوابطه الشرعية في التعامل الإنساني لمصلحة الإنسان، واستقرار العلاقات بين الناس جميعاً، وتعميق مشاعر الودّ، والوفاق، والتعاون، والتآخي بينهم. وآداب التزاور واحدة من هذه الضوابط التي ترسخ القيم الإنسانية للإسلام.
فلا اقتحام لخصوصية أسرة، ولا جرح لمشاعر أحد بسبب زيارة مفاجئة، تسبب حرجاً، أو ضيقاً لمشاعر الذين نزورهم من دون ترتيب مسبق معهم، ولا سخرية من طعام، أو شراب، أو سلوك، أو تصرف داخل بيت من البيوت التي نزورها.
كانت مدينة السادس من أكتوبر المصرية قد شهدت مشاجرة بين أسرتين بسبب زيارة منزلية مفاجئة، والسخرية من سلوك أهل البيت.. حيث عاد رب الأسرة من عمله فوجد بيته مزدحماً بالضيوف من أقارب زوجته، ولما استفسر عن سبب الزحام في منزله، من دون علمه، نشبت مشاجرة بين الأسرتين أسفرت عن سقوط قتيل، و4 مصابين..!!
هذه الواقعة المؤسفة، وغيرها كثير، تطرح تساؤلات شرعية هامة حول ضوابط وآداب التزاور المنزلي، واحترام خصوصيات الآخرين في بيوتهم.. وكانت البداية مع سؤال هام: هل علاقات القرابة، أو الجيرة، أو النسب تتيح الزيارات المنزلية من دون موعد مسبق؟

زيارة من دون استئذان غير مباحة
يقول د. عباس شومان، الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر «لا شيء يبيح للإنسان أن يفاجئ قريباً، أو صديقاً، أو جاراً له، بزيارة من دون علمه إلا في ظروف طارئة، ولحاجة ضرورية.. والقاعدة الشرعية هنا تقول: الضرورات تبيح المحظورات».
ويضيف «الزيارة من دون استئذان غير مباحة. والإسلام أبدع في آداب الاستئذان، حيث يجب على المسلم التحلي بها في تعاملاته مع الآخرين، بخاصة أنها سنّة نبوية كريمة. فآداب الاستئذان تفرض على الإنسان ألا يقتحم بيتاً من دون استئذان أصحابه، ولو كان يرتبط معهم بعلاقات قرابة، أو صداقة، أو نسب، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «الاستئذان ثلاث: فإن أذن لك، وإلا فارجع». وهذا يعني أن الإسلام سَنّ آدابا للزيارة ينبغي الالتزام بها حرصاً على أن تظل العلاقة بين الزائرين والمزورين في إطار الاحترام المتبادل. فالاستئذان قبل الزيارة من آداب الإسلام التي ينبغي الحرص عليها، ويعني إعلام أهل البيت حتى يستعدوا لمقابلة الزائر؛ يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون».
وآداب الزيارة تقتضي - كما يؤكد د. شومان- عدم دخول بيت لا يوجد فيه راعيه، أو ساكنه، أو على الأقل إخباره بالزيارة، حتى لا يفاجأ بها فتسيطر عليه الشكوك والظنون حول أهل بيته. كما تقتضي آداب الزيارة الرجوع عنها إذا كانت هناك ظروف تمنع أهل البيت من استقبال الزائر؛ يقول تعالى: «فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم».
ويوضح الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر، أن من آداب الزيارة إلقاء الزائر السلام على أهل البيت عند الاستئذان للدخول؛ فقد روي أن رجلاً من بني عامر أستأذن على النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وهو في بيت فقال: ألج- أي أأدخل-؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلّمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟، فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ فأذِن له النبي صلّى الله عليه وسلّم، فدخل. أيضاً، يجب عند الزيارة تعريف الزائر بنفسه، واسمه حين يسأل عنه، حتى يأذن له صاحب البيت بالدخول؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، يقول: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: (من ذا؟) فقلت: أنا، فقال: «أنا أنا»، كأنه كرهها، فالحديث يدلّ على كراهة قول المستأذن (أنا)؛ لأن هذه اللفظة لا تعرّف به.

ترشيد الزيارة مطلب شرعي
بيد أن بعض الناس يكثرون من زيارة أقاربهم، أو أصدقائهم.. فهل الزيارات الأسرية مباحة وفقاً لرغبات الزائرين؟ تقول دار الإفتاء المصرية «الزيارات المشروعة لها أهداف ومعانٍ إنسانية سامية، وينبغي عدم الإكثار من الزيارة حتى لا يملّ أهل البيت من الزائر؛ وقد شاع على ألسنة حكماء العرب قولهم: «زر غباً، تزدد حباً»، والبعض ذكرها كحديث نبوي لكن لم تثبت صحته، ومعنى العبارة: لا تكثر من الزيارة من دون داع، ذلك أن الإقلال من الزيارة يجعل النفس تشتاق لرؤية الشخص، ومقابلته، والجلوس معه.
أيضاً.. من آداب الزيارة عدم الإطالة في وقت الزيارة مراعاة لظروف أهل البيت؛ لأنهم قد يكونون منشغلين بأمور أخرى هامّة؛ يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق»، فقد نزلت هذه الآية بسبب قوم كانوا يأكلون عند رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، في وليمة أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش، رضي الله عنها، ثم جلسوا يتحدثون في منزل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منشغل بحاجة أهله، لكن منعه الحياء من أن يأمرهم بالخروج من منزله».
الوقت المناسب للزيارة
ولكن، هل هناك أوقات محدّدة تكون مناسبة لزيارة الأسر؟ تجيب دار الإفتاء المصرية «عند الزيارة ينبغي اختيار الوقت المناسب للزيارة، حتى لو كانت الزيارة للوالدين، فهناك أوقات لا تناسب أهل البيت في استقبال أحد من الزائرين؛ كأوقات الراحة، ونحو ذلك؛ قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم».

حرمة أسرار البيوت
ومن الظواهر السلبية أيضاً، أن بعض الناس يخرجون بعد زيارة أقارب، أو أصدقاء، أو جيران لهم، وينقلون أسرار بيوتهم، أو يبدون آراء سلبية في سلوك أهل البيت، أو طعامهم، وعن موقف الشرع من هذا السلوك يبيّن العالم الأزهري د. فتحي عثمان الفقي، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر وعضو لجنة الفتوى المركزية بالأزهر، «هذه سلوكات معيبة لا يقرّها الإسلام، وشريعتنا الإسلامية جاءت بآداب وأخلاقيات تعامل إنساني راقية، من شأنها تنظيم العلاقة بين الناس، وحفظ خصوصياتهم، واحترام حياتهم الخاصة، وعدم نقل أسرار بيوتهم. ولو تأملنا آداب الإسلام في التزاور بين الناس، وضرورة الاستئذان حتى بين الأبناء والآباء، لتعرفنا إلى حجم ما قدّمه ديننا من آداب وأخلاقيات تعامل؛ حيث وضع سياجاً منيعاً من القيم، والتعاليم، والأحكام الصارمة التي تحقق السرية والخصوصية المحرم الاطلاع عليها شرعاً، أو كشفها تحت أيّ دعوى، أو مبرر.
كما لا يجوز اقتحام خصوصية المنازل عند الزيارات الأسرية، بمعنى أن يجلس الزائر، رجلاً كان أو امرأة، في الأماكن المخصصة لاستقبال الضيوف، ولا يتجاوزها إلا لو أذن له أهل البيت بذلك. هذا أدب علّمنا الإسلام إياه، ولو سمح لضيف بدخول مساحة من البيت مخصصة لأهله ورأى شيئاً، أعجبه أو استنكره، لا ينبغي أن ينقل ذلك لآخرين. فالبيوت لها حرمة، وينبغي عدم التلصّص على مكوناتها، والحفاظ على أسرارها».
ويضيف «من تقاليد كثير من الأسر العربية أن يجلس الرجال الزائرين مع أهل البيت من الرجال في الأماكن المخصصة لاستقبال الضيوف، وأن تدخل النساء والأطفال إلى باقي مساحة البيت، والتي غالباً تكون مخصصة لأهل البيت، وهنا لا ينبغي للنساء الزائرات أن ينقلن ما شاهدنه داخل البيت لأزواجهن، حرصاً على خصوصية أهل البيت».
كما سألنا د. الفقي أن بعض الأبناء والأقارب يأتون في زيارات مفاجئة لبيوت آبائهم وأقاربهم.. فهل هذا مباح شرعاً؟ فأوضح «ما أمرنا به الخالق سبحانه وتعالى عند دخول بيوت الآخرين يؤكد حجم احترام الإسلام لخصوصيات الآخرين، حتى لو كانوا من أقرب الناس إلينا، وقد حملت لنا سورة النور أمراً إلهياً واضحاً: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم، ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون».
وقد جاء في سبب نزول هذه الآيات، أن امرأة من الأنصار جاءت إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليّ، وإنه لا يزال يدخل على رجل من أهلي وأنا على تلك الحال.. فكيف أصنع؟ فنزلت هذه الآيات التي تحمل خلقاً وأدباً إسلامياً رفيعاً، يجب أن يلتزم به الكبار، وأن يعلّموه لصغارهم، ويربّوهم عليه».
ويواصل «علينا أن نتأمل قول الله تعالى: (ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون)، ففيها تربية نفسية وأخلاقية على الالتزام بهذا الأدب السامي، وهو عدم دخول بيوت الآخرين إلا بعد استئذان ساكنيها.. لكن الوضع يختلف إذا كانت هذه البيوت غير مسكونة، وفيها متاع، أو مصلحة للإنسان».
أما عن سلوك الأجيال الجديدة من خلق الاستئذان والحرص على آداب الزيارة، فيشير د. الفقي «للأسف، تلاشت من نفوس الكثيرين من الأطفال والشباب آداب الاستئذان، مع أنها تتصدر الأدب العالي، والذوق الرفيع، والخلق الفاضل الكريم، وقد أرسى هذا الأدب القرآن الكريم وهو الدستور الإلهي الخالد الذي يحترم المشاعر والأحاسيس، وصيانة الأعراض، وبما أن الاستئذان أحد الأخلاق الإسلامية الرفيعة التي تحافظ على حرمة وخصوصيات أصحاب البيوت، وعلى كرامة من يزورهم ويتردّد عليهم، فيجب أن نربّي أبناءنا على هذا الأدب الرفيع منذ نعومة أظفارهم».

التوصيف الشرعي للاستئذان
يقول د. الفقي «يجب على كل إنسان- سواء أكان رجلاً أم امرأة- أن يستأذن ويسلم قبل الدخول على غيره في بيته، فالآية الكريمة تحمل نهياً صريحاً عن الدخول من دون استئذان، وقد قال الفقهاء إن الاستئذان واجب، والسلام مندوب، وبذلك يكفي الاستئذان فقط عند الدخول. ويرى بعض العلماء أن القادم يبدأ بالاستئذان قبل السلام وفقاً، لترتيب ما ورد في الآيات الكريمة، ويرى كثير منهم تقديم السلام على الاستئذان، حيث وردت أحاديث متعدّدة تفيد بأن السلام مقدم على الاستئذان، ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «السلام قبل الكلام»، وبعض العلماء فصّل في هذه المسألة فقال: إن كان القادم يرى أحداً من أهل البيت سلم أولاً ثم أستأذن في الدخول، وإن كان لا يرى أحداً منهم قدم الاستئذان على السلام».
أسرار ومقتنيات البيوت أمانة
من جهتها، تحذّر د. فتحية الحنفي، أستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، من كشف عورات البيوت أمام الزائرين، وتقول «لكل بيت خصوصية ينبغي أن يحافظ عليها أهل البيت، حتى أمام أقرب الناس إليهم، والبيوت تحسد كما تحسد الأموال والأبدان، فحافظوا على بيوتكم من عيون المتلصصين».
وتضيف «سواء أكان الزائرين رجالاً أم نساء، ينبغي أن يجلسوا في الأماكن المخصصة للضيوف، ولا يطّلعوا على أسرار البيوت، ولو حدث وتساهل معهم أهل البيت واطّلعوا على الخصوصيات ينبغي المحافظة عليها لأنفسهم، ولا ينقلونها لآخرين. ديننا يحيط زيارة البيوت بسياج من القيم والأخلاق الفاضلة والسلوك الراقي، الذي يتعلم منه المسلم في كل العصور كيف يكون راقياً، ومتحضراً، وأميناً عند زيارته بيتاً غير بيته، وناساً غير ناسه، والتحليل التربوي والأخلاقي لسلوك رسول الله في كل بيت ذهب إليه، والفهم الصحيح لكل توجيه يصدر عنه، يؤكد أنه جاء بكل ما هو راقٍ، ومتحضّر من السلوك، وسما بالأخلاق فوق كل الصغائر، ورسم للزيارات المنزلية صورة راقية، تغلفها كل المعاني الإنسانية».