'جمعية ماراثون بيروت' تحوّل مدرسة إلى مركز إيواء وأمل لأطفال لبنان
في ظل الحرب التدميرية الإسرائيلية على لبنان، المستمرة منذ أكتوبر 2023، وتحت وطأة القصف، والخراب، والدمار الذي حلّ، اضطرت العائلات اللبنانية إلى النزوح من بيوتها وأماكن سكنها، ووجد مليون و400 ألف نازح من اللبنانيين أنفسهم محاصرين ضمن دائرة مأساوية، تتسع يوماً بعد يوم، بدأت مع النزوح القسري، ولم تنته عند اللجوء إلى مراكز الإيواء في المدارس، والملاجئ، حيث الاكتظاظ الشديد، والبرد القارس.
تستمر هذه المعاناة الإنسانية القاسية وسط عدم توافر الإمكانات اللازمة لمواجهة الأزمة، ضمن خطة الطوارئ الحكومية التي لم تكن كافية، والتي دفعت رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، أخيراً، إلى الاعتذار من اللبنانيين عن كل تقصير قد حصل، بالنظر إلى محدودية الإمكانات، وضخامة الحاجات، بعد أن بلغ النزوح حدّاً فاق التوقعات، وفق تعبيره.
وتتجلّى المأساة أيضاً بالتوازي مع المبادرات الأممية التي لا تتوقف عن المطالبة بإنهاء الحرب لأن لبنان بات أمام «أزمة إنسانية كارثية»، وفق توصيف الأمم المتحدة التي حذّرت، في بداية الشهر الجاري، من وقوف لبنان على «حافة انهيار كارثي»، بسبب التصعيد في الجنوب اللبناني، والذي امتد ليشمل أرجاء واسعة من لبنان، مشيرة إلى ضرورة تبنّي آليات واضحة لتطبيق قرارات مجلس الأمن بشأن الصراع.
بدورها حذّرت كل من «الأسكوا»، و«اليونيسيف»، من وقوف لبنان على حافة انهيار كارثي، ومن المستوى غير المسبوق الذي وصل إليه الوضع الإنساني في لبنان، والذي تجاوز الأوضاع التي عاشها لبنان حتى خلال حرب عام 2006. وكان تيد شيبان، نائب المدير التنفيذي «لليونيسيف» للشؤون الإنسانية، قد زار، منتصف أكتوبر الماضي، مدارس بيروت التي تحولت إلى مراكز إيواء، وقال إنه «من المذهل أن هذه الحرب عمرها ثلاثة أسابيع، وقد تأثر الكثير من الأطفال، وصار 1.2 مليون طفل محرومين من التعليم، إذ أصبح من الصعب الوصول إلى المدارس الرسمية التي تضرّر بعضها بسبب الحرب، أو يتم استخدامها كملاجئ»، مشدداً على أن «ما يقلق في هذا البلد، إضافة إلى كل ما مرّ به، هو خطر ضياع جيل»، مضيفاً أن «الأطفال النازحين محشورون في ملاجئ مكتظة، حيث تعيش ثلاث أو أربع عائلات في فصل دراسي واحد، ولا يفصل بينها سوى غطاء بلاستيكي، ويتشارك 1000 شخص 12 مرحاضاً»، مبيّناً أن «معظم الأطفال النازحين تعرّضوا للكثير من مشاهد العنف، بما في ذلك أصوات القصف، والطلقات النارية، لدرجة أنهم يخافون من أيّ ضجيج عال».
ووفق آخر تقرير، صادر عن وزارة الصحة اللبنانية، فالأمر لا يقتصر على نزوح العائلات والأطفال، بل على الموت الذي يطالهم، حيث بلغ عدد الضحايا منذ بدء الحرب على المناطق اللبنانية حتى 14 نوفمبر 3386 قتيلاً، و14417 جريحاً. وقالت بلانش باز، المتحدثة الرسمية باسم «اليونيسيف»، إنّ «أطفال لبنان يحتاجون إلى وقف إطلاق نار، دائم وفوريّ، حتى يتمكّنوا من الوصول بأمانٍ إلى الخدمات الأساسية، ويشرعوا في التعافي من صدمة الحرب».
وفيما أعلنت «اليونيسيف»، في تقرير خاص، أن أكثر من 400 ألف طفل في لبنان نزحوا خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، فإنها أشارت إلى القلق من أنّ هذه الأعداد المأساوية تتزايد، يوماً بعد يوم، منبّهة إلى أن «الحرب المستمرة في لبنان تؤدي إلى قلب حياة الأطفال رأساً على عقب، وتتسبّب بإصابات جسدية خطرة، وندوب نفسية عميقة»، كاشفة أنه «منذ 4 أكتوبر من هذا العام، يُقتل طفل واحد على الأقل كلّ يوم، ويُصاب 10 آخرون»، ودعت «بشكل عاجل جميع الأطراف إلى الوفاء بالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي لضمان حماية المنشآت المدنية، والمدنيين، بمن فيهم الأطفال، والعاملون في المجال الإنساني والطبّي. ويشمل ذلك تسهيل التنقل الآمن للمدنيين الباحثين عن الأمان»، مشدّدة على أنّ «ما يحتاج إليه أطفال لبنان الآن وقف فوريّ لإطلاق النار».
«جمعية ماراثون بيروت».. سباق لإنقاذ الحياة
ويؤكد المشهد الإنساني في لبنان مقولة إنه في حروب الكبار يدفع الصغار الأثمان مضاعفة، ووفق تقارير مؤسسات لبنانية تعنى بالأطفال ميدانياً، فإن العديد منهم تعرضوا لأزمات، نفسية وعصبية، جرّاء مشاهد القصف والدّمار، وجرّاء النزوح القسري، والحرمان من العام الدراسي، والفقر، والعوز، والبرد، وغيرها من المآسي التي تتضافر جهود الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية لمجابهتها، قدر الإمكان، ومن هذه الجمعيات برزت بصورة واضحة «جمعية ماراثون بيروت»، التي تترأسها السيدة مي الخليل، حيث تبنت العمل لمصلحة النازحين في «مدرسة المستقبل الرسمية المختلطة في بيروت»، وقالت في لقاء خاص أجرته «كل الأسرة» معها، إنها تولت حملة إغاثة للنازحين إلى مدرسة «المستقبل» وفق خطة عمل، لوجستية وتنظيمية، تتضمن تقديم مساعدات عاجلة، غذائية وصحية، للعائلات، وحصص رياضية وترفيهية للأطفال، للتخفيف من معاناتهم على الصّعد المعيشية، الغذائية، والصحيّة، والطبيّة، والنفسيّة.
وكشفت الخليل أنها أطلقت حملة دعم لتأمين احتياجات النازحين، مضافة إليها حملة تبرعات لتأمين مواصلة العمل الذي تتضاعف تحدّياته، يوماً بعد يوم، في ظل استمرار الحرب، وقالت إن «مبادرة «جمعية ماراثون بيروت» انطلقت بداية مع 300 نازح في «مدرسة المستقبل»، ثم ارتفع العدد إلى 450 من مختلف الأعمار نواكبهم يومياً، وميدانياً، بالتعاون مع مؤسسات وشخصيات شريكة، ونقوم بتقديم 900 وجبة غذائية يومياً، صباحاً ومساء، و100 ربطة خبز، و1000 عبوة مياه للشرب، إضافة إلى حليب الأطفال، والأدوية الطبية، والمحروقات، وأدوية التنظيفات، وخزانات المياه، وعملنا على تأمين فرش، وبطانيات، وألبسة وأحذية للأطفال، وكتب للمطالعة والقراءة، وألعاب فكرية، ومعدّات رياضية، بالتعاون مع رادا الصواف، العضو الإداري في «ماراثون»، والعضو التأسيسي في «الميمونة للتنمية»، كما ننظم أنشطة رياضية للأولاد عبر تمارين بدنية، ويوغا، ومسابقات في الركض على ملاعب المدرسة، بمواكبة مدربين، وعدد من المتطوعين الذين لبّوا نداء الحاجة إليهم، وخلال المباريات اعتمدنا توزيع ميداليات للأطفال لرفع معنوياتهم، وقمصان رياضية لإدخال البهجة إلى قلوبهم».
وتتابع الخليل، التي يبدأ نهارها بزيارة الصغار، وقد اعتادوا الاستيقاظ والخروج فوراً إلى الملعب، هرباً من الغرف الضيقة، أنه بالنسبة إليها، فإن الأمان لا يعني السقف فقط، بل احتضان المخاوف، وعلاج الأسئلة الصعبة «لذا نظمنا، ونتابع تنظيم أحداث رياضية ومباريات لمحاربة القلق والخوف، وبث الروح المعنوية، ورسم البسمة على الوجوه بدل الدموع».
وردّاً على سؤال حول تضافر الجهود لاستمرار دعم النازحين، أوضحت الخليل أن «مؤسسات وشخصيات شريكة لنا تقوم، مشكورة، بما يمكن لها، ولكن نود الاستجابة أكثر لحملة التبرعات، من الداخل والخارج، حاجتنا ملحّة لتضافر جهود أكبر، حيث الحرب مستمرة، والتحديات كبيرة، ومع إطالة الوقت، وقدوم الشتاء والبرد القارس، أدعو الجميع إلى التبرع لتغطية نفقات احتياجات النازحين، وحاجاتهم الملحّة، بخاصة أن الذين تركوا منازلهم لا يملكون شيئاً، سوى الألم والأمل، ونحن نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى التكاتف بروح من الرحمة والعمل الإنساني، ولطالما أطلقت جمعيتنا سباقات الركض في لبنان من أجل قضايا هامّة، لكن قضية اليوم هي الأكثر أهمية، إنها سباق ضد الزمن، وسباق لأجل الحياة، والأطفال الذين فقدوا كل شيء، ويحتاجون إلى كل شيء، وسباقنا اليوم لتقديم وجبات غذائية دافئة، ومأوى آمن، ونعمل على إعداد مطبخ مركزي لتحضير وجبات ساخنة، وكذلك تأمين الإنترنت للتلامذة لكي يتابعوا دروسهم عن بعد، وأيضاً تأمين القرطاسية اللازمة، ولا يمكننا فعل ذلك بمفردنا، وكل تبرّع، مهما كان حجمه، سيحدث فرقاً عميقاً في حياة هذه العائلات».
وفي الوقت الذي كانت تتأهب فيه «ماراثون بيروت» لتنظيم الحدث السنوي، المقرر في نوفمبر الجاري، فرض التهجير تأهباً من نوع آخر، وفق ما تقول فرنسواز نعمة، مديرة العمليات الميدانية في الجمعية، مشيرة إلى «تحول الجهود من تنظيم سباق لنحو 20 ألف مُشارك، إلى إيواء النازحين، ومدّهم بما يبعدهم عن الذل، ليس بالخبز وحده، ولا بالماء والبطّانيات الواقية من البرد، وإنما أيضاً بما يوازي ذلك أهمية، ويتجلّى في الحفاظ على الصحة العقلية والنفسية للعائلات، مع الحرص على رسم ابتسامات على وجوه الأطفال المقهورين، والمذعورين، من خلال اللعب، وممارسة الأنشطة الرياضية، حيث إن وقت اللعب يهدئ وطأة الأيام القاسية، ونحن نعتمد أسلوب اللعب بكرة كرة القدم، والقفز، والركض، وجلسات اليوغا التي تعتبر جديدة على الأطفال، لكنها ممتعة، مضافاً إليها الرسم والتلوين، والتي تقرّب المسافات بين الأولاد، وتفسح المجال لصداقات جديدة، وغيرها من الأنشطة، في محاولة للعبور صوب الصحة النفسية الضرورية».
جولة داخل مدرسة «المستقبل» ولقاء النازحين
وخلال جولة بين النازحين في مدرسة «المستقبل»، تعرّفنا إلى أطفال، وأسماء، بينهم رنين بيضون، وحوراء عليان، وضحى دقماق، وجوان بلوط، وداوود ركين، وراما طه، وغيرهم، من الذين اعربوا عن رغبتهم في العودة إلى منازلهم، وكانت كلماتهم أكثر عمقاً من براءتهم، حيث قالت حوراء «إننا هنا نختبئ من القصف، هربنا من بيوتنا، ولكننا نتشوّق إلى العودة.. أنا لم أتعلّم هنا بعد، فقط أختي الكبرى تتعلم عن بعد، لأن لديها امتحانات شهادة «البريفيه»، وغالباً ما يفوتها الدرس لانقطاع الإنترنت، وليس لديها مال لتشترك في خدمة الهاتف».. بينما قالت راما طه «أنأ أحاول متابعة المنهاج المدرسي وفق ما يتيسر لي، أكتب فروضاً، واقرأ، لكن لا أعرف كم سيستمر ذلك»، وقاطعها علي، وعمره أربع سنوات، ليقول «أريد حذاء شتوياً كي استطيع اللعب في ملعب المدرسة»، بينما قالت جوانا «أريد كتبي وأقلامي»، أما داوود ركين فقال «التحقت بإحدى المدارس الرسمية التي فتحت أبوابها للتعلم عن بعد، أجلس إلى هذه الطاولة الخشبية الموجودة في باحة ملعب المدرسة التي نزحت إليها من البقاع، وأحاول أن أدرس، ومن حولي أكثر من منشر للغسيل، وضجيج، وصوت طائرة الاستطلاع في سماء بيروت، وأطفال صغار يلعبون ويركضون، ولم يتمكنوا من التعلّم عن بعد».
هذه الوجوه التي التقيناها في باحة المدرسة دلفت إلينا بكل حب وبراءة لتشكو الهموم والمخاوف، كأنها كبُرت قبل أوانها، وتريد أن تفضفض علّها تجد آذاناً صاغية تقدم لها يد العون، ومع صعودنا الدرج صوب «الحصص» التي تؤوي الناس كان هناك أيضاً بين النازحين طفل مُصاب بمتلازمة داون، وآخر يعاني غسل الكلى، ومن الأهالي من يصارع السرطان، هؤلاء جميعاً تجمعوا تحت سقف المدرسة الذي بات سقفاً للتعاون، وقد وجدوا، وفق تصريحاتهم، احتواء لهم من قبل جمعية «ماراثون بيروت»، والمتعاونين والداعمين لها، ووجدت الحالات الخاصة منهم معاملة خاصة في شؤون الطبابة، وتأمين الأدوية اللازمة، ويتم التنسيق غالباً مع نشاطات متطوعات كزينب ترمس، وغانيا صالح، وأبو جميل، وغيرهم من الذين تطوعوا لمتابعة المجريات على الأرض لتنظيم الأمور، والتنسيق ما بين النازحين والجمعية.
تقول غانيا صالح «إننا شاكرون لما يبذل لأجل الناس، لكن لا يمكن توصيف مأساة النزوح، وثقلها، والأثر الذي تتركه في نفوس وسلوك الأولاد، إنها معاناة إنسانية بكل المقاييس، نحن نجتهد لتنظيم الأمور الحياتية اليومية، ونقسّم مهام التنظيف، وتوزيع الطعام، ومراقبة الأولاد في الملعب لضمان عدم حدوث مشاحنات بينهم، لأن الأولاد متعبون، ويسيطر عليهم الخوف والقلق، وتقوم جمعية «ماراثون بيروت» «بالتنسيق مع فرق كشفية، ومتطوعين من نادي «الهوبس»، ومن جمعية «الميمونة»، وجمعية «جبل عامل» بتفقد الأطفال، ومساعدتهم. كذلك لا يمكننا عدم الالتفات لحال الأمّهات والآباء الذين يعانون الأمرّين، جرّاء فقدان أقرباء لهم غيّبهم الموت، وجرّاء قصف منازلهم، وسحق ذكرياتهم، فهؤلاء أيضاً يعانون قلق المصير، والأمهات يتابعن الدروس لأولادهن، وغسل الملابس يدوياً، والطبخ، ولو مداورة، عبر استخدام الغاز الذي تم تأمين واحد منه لكل طابق»، وتعقب بتول، وهي أم لثلاثة أبناء «أزمة النزوح لا يمكن السيطرة عليها من خلال الجمعيات التي تساعد على تأمين الأساسيات، من كهرباء، وماء، ودواء، وطعام، لكن الحاجات كبيرة، وملحّة، وهذه أزمة دولة، وتحتاج إلى ميزانيات كبيرة»، مضيفة «منذ أن نزحنا زوجي لا يعمل، وأولادي التحقوا بالدراسة عن بعد، لكن كلفة الإنترنت تثقل كاهلي، ولا مال لديّ لشراء الكتب والقرطاسية وغيرها».