بشرى في العلالي
ما هو شعور شابّة تجلس وحيدة على ارتفاع 50 متراً، في كابينة زجاجية صغيرة معلّقة في الفراغ؟ إنها لحظة قد تكون مرعبة لأيّ امرأة، لكنها لحظة عادية تعيشها بشرى كل يوم. فهذه الشابة التركية المهاجرة إلى فرنسا، تشتغل سائقة لرافعة وزنها عدّة أطنان. وبحكم العمل، فإنها تتنقل حسب مواقع ورش البناء. لذلك فقد كان اللقاء بها في مدينة ستراسبورج، شرق البلاد.
تراك بشرى في الأسفل، فتشير إليك بالتحية بيدها من عليائها، كأنها ملكة بريطانيا تركب عربتها المذهّبة. تدعوك إلى ملاقاتها في كابينتها الضيّقة، لكن من الأسلم لك أن تنتظر هبوطها إلى سطح الأرض لتتبادل الكلام معها، وسؤالها عن الظروف التي دفعتها إلى العمل في هذه المهنة الخطرة.
امرأة تعمل على ارتفاع 50 متراً
قيادة الرافعات لنسيان المشاكل
تقول بشرى «أحب هذا العمل لأنني أشتغل منعزلة في كابينتي، من دون أن يزعجني أحد. لقد اشتغلت سنوات عدّة في مصنع للشوكولاتة، لكنني دخلت دورة للتدريب على قيادة الرافعات العملاقة عام 2021، لأنني كنت أمرّ بفترة حرجة من حياتي، وأبحث عن عمل يستغرق كل انتباهي، وينسيني مشكلاتي الشخصية. لقد انفصلت عن زوجي، وأربّي أبني وحيدة، وكان لابدّ من عمل يوفر لي دخلاً مجزياً».
تبلغ بشرى من العمر 28 عاماً. كانت تعرف أصدقاء يعملون في الورش، وبينهم سائق رافعة يشتغل في سويسرا، ويكسب ذهباً. وهذا ما شجعها على ترك عملها السابق، والانتقال إلى دورة تأهيلية لتعلّم المهنة الجديدة. ثم إن سويسرا ليست بعيدة، ومستوى الأجور فيها مرتفع بالقياس مع فرنسا.
تحتاج مهنة بشرى إلى الكثير من التركيز، وأي خطأ قد يتسبب بكارثة. ولهذا، فإن الوقت يمرّ بسرعة. إنها تجلس منفردة في «زنزانتها» الفضائية، وتؤدّي عملها بمعزل عن زملائها، وهي تحب هذا الجانب من العمل الذي يضمن لها استقلالها، وتحمّل المسؤولية الكاملة عن تفاصيل حركة الرافعة. لا أحد يصدر لها الأوامر، وليست مضطرّة لتحمّل أمزجة الآخرين.
سعادتها حين تكون وحيدة في كابينتها
صدمة لرؤية لبؤة
تدرك بشرى أنها امرأة تمارس عملاً رجالياً. لكن هذا الأمر لم يقلقها، وتؤكد «أنا لبؤة، أي قوية مثل أنثى الأسد. لقد رأيت الكثير في حياتي لذلك تخلّيت عن الخوف. ثم إنني فرنسية من أصل تركي. وفي الورش عمال أتراك كثيرون يؤدون مختلف التخصصات، كالبناء، والنجارة، والسباكة، والكهرباء. لذلك فإنني أشعر كأنني بين أهلي، لأنني محاطة بأبناء بلدي».
كان من الطبيعي أن تتعرض بشرى في بدايات دخولها المهنة لنظرات فضولية. لقد أصيب بعض العمال بالصدمة وهم يرون بينهم شابة ببدلة العمل الزرقاء، والخوذة الواقية للرأس. كما أنها سمعت تعليقات من نوع أن العمل سيتأخر بسبب وجود امرأة في الرافعة. لكنها لم تترك تلك التعليقات تمرّ بسلام، حتى لو كانت من قبيل التهكّم، وهي تجيد السخرية والتهكّم، لكنها أدركت أن الجد ضروري في وقت الجد. وكانت إجادتها لعملها هي الردّ الذي أفحم الجميع.. قالت لهم «نعم أنا امرأة، ولكنني لا أخاف، وأعرف كيف أقود رافعة».
انسجمت بشرى في محيط الورش، وهي تقبض ما معدله 3500 يورو في الشهر. وهو أجر مريح لأنها في بداياتها كانت تحصل على 1800 يورو شهرياً. أما عند اشتغالها في مصنع الشوكولاتة فإن أجرها كان أقل من ذلك. وهي اليوم تختار الأوقات التي تناسبها من عروض التشغيل المتوفرة في مكاتب العمل، ولا ترتبط ارتباطاً دائماً مع شركة معيّنة للبناء، والتعمير. إن العمل حسب المواسم يحقق عوائد أكثر، كما أنه يترك لها حرية الاختيار، ولو ارتبطت بشركة فستتبع جدول أماكن الورش، وستكون مجبرة على الذهاب إلى مناطق بعيدة عن أسرتها.
يدهش المرء وهو يسمعها تقول إن أسعد اللحظات هي تلك التي ترتفع فيها بكابينتها إلى أعلى حدّ ممكن. ففي تلك الساعات تشعر كأنها طائر يحلّق فوق المدينة، والشوارع، والغابات، والبشر. وفي ورشتها الأخيرة لترميم برج إحدى الكاتدرائيات، كانت على ارتفاع يوازي ناقوس المبنى. ولكم أن تتخيّلوا إحساسها، وهي تمدّ يدها إلى «ترموس» الشاي لكي تصبّ لنفسها قدحاً ساخناً، وهي في الأعالي.
ليس «الترموس» وحده، بل إن كابينة بشرى تحتوي على كل ما تحتاج إليه من ضروريات.. الشاي، والسندويشات، وعلكة النعناع، والمعطف الصوفي، والجزمة الكاوتشوك، وفرشاة للتمشيط، وعدّة «المكياج»، وهناك في مقدمة الكابينة علم بلادها.