يكشف معرض «طيف الخيال»، الذي تستضيفه مؤسسة الشارقة للفنون، عن العوالم المسرحية والموسيقية للفنان ويليام كنتريدج، ليشكل إيقاعا خاصا داخل بيت السركال، حيث تختلط الأصوات والصور مع عمارة المكان، لتروي حكاية فريدة عن فن يتجاوز الحدود الزمنية والمكانية، ويُعيد تعريف تجربة العرض المسرحي.
يشير عنوان المعرض الذي يستمر حتى الثامن من ديسمبر، إلى أحد أوائل الأعمال المسرحية العربية التي أبدعها ابن دانيال، الكاتب المسرحي وفنان الدمى العربي الذي اشتهرت أعماله بابتكار شخصيات ساخرة ولاذعة تجرأت على تحدي الأوضاع الاجتماعية السائدة، ما جعلها تعكس نقدا اجتماعيا حادا.
يعد ويليام كنتريدج المولود في جوهانسبيرغ، واحدا من أبرز الفنانين المعاصرين، حقق شهرة واسعة من خلال رسوماته ومنحوتاته وأفلام التحريك التي تركز على موضوعات سياسية واجتماعية تتمحور حول ظروف جنوب إفريقيا والعالم، مقدما جماليات فنية فريدة أصبحت جزءا مهما من الذاكرة البصرية للفن المعاصر، وتتجلى أعماله في مشابهتها لتقاليد مسرح خيال الظل ومسرح الدمى التي اعتمدها ابن دانيال. كما يتقاطع اختياره لموضوعات وشخصيات مسرحية مع تلك التي ميزت أعمال ابن دانيال، خاصة في استلهام شخصيات رمزية مثل «الملك أوبو»، التي وظفها كرمز يعكس الجنون والقمع الذي ميز نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، إضافة إلى نقد المشروع الاستعماري المستمر بآثاره وتحولاته.
بهذا المزج بين التراث العربي والنقد المعاصر، قدم كنتريدج من خلال المعرض جملة من أعماله التي تحمل صدى فنيا عابرا للزمن، وتضع الماضي والحاضر في حوار يعكس قضايا العدالة والإنسانية.
ملك أوبو وابن دانيال.. نقد سياسي عبر الأزمنة
تبرز شخصية “الملك أوبو” واحدة من الرموز المسرحية التي تتكرر في أعمال الفنان كنتريدج، حيث تظهر في العديد من لوحاته ومعارضه، محملة بالاستعارات والإشارات التي تعكس نظام الفصل العنصري وممارساته القمعية. وتبرز هذه الشخصية بشكل خاص في معرض «طيف الخيال»، الذي استلهم اسمه من مسرحية «خيال الظل» للطبيب والشاعر والفنان الموصلي ابن دانيال، حيث تتقاطع شخصية “الملك أوبو” مع أعمال ابن دانيال في تقديم نقد سياسي لاذع لجنون السلطة وفساد المجتمع، بأسلوب فكاهي عبثي يعرف بـ«الفارس» أو «المهزلة»، ويشترك الاثنان في قدرتهما على تصوير التناقضات الاجتماعية والظلم بأسلوب ساخر، ما يجعل أعمالهما تحمل طابعا إنسانيا عابرا للزمن يعكس صراعا مستمرا مع أشكال الاستبداد والفساد.
صوفيا تاون.. ذاكرة المقاومة والإبداع
في خمسينات القرن الماضي، كانت صوفيا تاون بجوهانسبرغ مركزا ثقافيا يجمع الفنانين والمثقفين والنشطاء. اشتهرت بتنوعها، لكنها أصبحت هدفا لسياسات الفصل العنصري، حيث أُعلنت “منطقة بيضاء”، ما أدى إلى ترحيل قسري للسكان السود وانتفاضات ضد السلطات.
في هذا العمل يجسد كنتريدج تاريخ الضاحية، إذ يدمج بين مشاهد من عصرها الذهبي، الذي شهد ولادة موسيقى الجاز الجنوب إفريقية، ومشاهد توثق نضال سكانها ضد التمييز، ليعيد إحياء الحي كرمز للمقاومة والتنوع.
ضمير زينو.. صراع الذات في ظل التحولات الكبرى
استلهم كنتريدج سلسلة من أعماله الفنية أثناء إعداد رواية «ضمير زينو» لـ«إيتالو سفيفو» إلى خشبة المسرح، حيث ركز في عمله على العالم الداخلي لشخصية زينو، وصراعه مع نفسه في محاولة للسيطرة على حياته، بينما يعيش في ظل تحولات الحرب العالمية الأولى.
من خلال رمزية محاولات زينو المتكررة للإقلاع عن التدخين، نسج كنتريدج ثيمات عميقة حول الحتمية التاريخية، والانتماء، وتأثير التغيرات الاجتماعية والسياسية على الأفراد وهوياتهم.
فويتسك.. تراجيديا القمع في جوهانسبرغ الخمسينات
بهذا العمل قدم كنتريدج رؤية فريدة لمسرحية «فويتسك» للألماني جورج بوشنر، محولا أحداثها إلى جوهانسبرغ في خمسينات القرن الماضي.
في هذا العرض المسرحي والأوبرالي، يصبح فويتسك عاملا مهاجرا بسيطا يعيش تحت وطأة الاضطهاد الممنهج، حيث تدفعه قسوة الفصل العنصري، وانعدام العدالة الاقتصادية، والقمع الاجتماعي إلى حافة الجنون. وبهذا الإعداد المبتكر، يعكس كنتريدج واقعا تاريخيا وسياسيا مؤلما، مسلطا الضوء على المآسي الإنسانية الناجمة عن التمييز العنصري والظلم الاجتماعي.
قدم الفنان بالتعاون مع الملحن فيليب مولر عرض «موسيقى ورقية» الذي أظهر تعاونا فريدا بينهما بالمزج بين الأداء المسرحي وفيديوهات الرسوم المتحركة في تجربة بصرية وصوتية استثنائية. يعتمد العرض على تفاعل متناغم بين الموسيقى، الأصوات الغنائية، وأصوات الأغراض اليومية التي تتحول إلى آلات موسيقية، مع أفلام كنتريدج الشهيرة مثل «رحلة القمر» و«فليكس في المنفى»، ليولد طاقة إبداعية فريدة تدمج بين الأفكار والمشاعر والجماليات، ما يجعل العرض احتفالا متكاملا بالفن متعدد الوسائط.
أوبو ولجنة تقصي الحقائق.. استعارة للفصل العنصري
بهذا العمل قدم كنتريدج شخصية «الملك أوبو» في عرض مسرحي كرمز للتحول الجنوني للسلطة المطلقة، ووضع أوبو في سياق جنوب إفريقيا كاستعارة لنظام الفصل العنصري، الذي ادعى العقلانية والفعالية، بينما كشفت شهادات الضحايا والجناة، خلال جلسات لجنة تقصي الحقائق، عن فظائع صادمة وانتهاكات جنونية لحقوق الإنسان. من خلال هذه الأعمال، يعكس كنتريدج تداخل السلطة والعنف في سياق سياسي واجتماعي مضطرب.
الناي السحري.. قراءة بصرية للإرث الاستعماري
أثناء تطويره لأوبرا موتزارت الشهيرة «الناي السحري»، قدم كنتريدج أعمالا فنية مبتكرة استخدم فيها صورا متحركة بيضاء على خلفيات سوداء، بأسلوب أشبه بنيجاتيف الأفلام. من خلال ثنائية الضوء والظلام، استكشف كنتريدج موضوعات فلسفات التنوير معيدا قراءتها من منظور الإرث الاستعماري وتأثيره المتواصل عبر الزمن، ليدمج بين العمق البصري والتأمل الفلسفي، لتعيد التفكير في مفاهيم الحداثة والتاريخ في سياق معاصر.
الأنف.. عبث جدي في عالم الدعاية
أثناء تطويره لأوبرا مقتبسة من قصة الكاتب نيقولاي غوغول بعنوان «الأنف»، استخدم كنتريدج رسوم التحريك الخاصة به على خلفيات المسرح والديكور، وأيضا على صفحات الأخبار، في إشارة إلى مجتمع غارق في الدعاية الموجهة، ليعكس تفرد القصة الأصلية في تعاملها مع العبثية، حيث يقدم موضوعات جدية بأسلوب هزلي، ما يعزز تناقضات المجتمع ويكشف عن الهشاشة الاجتماعية من خلال لغة بصرية مبتكرة.
الرأس والحمولة.. مشروع أوبرا بين الفكر والفن
أثناء تطويره لمشروع أوبرا «الرأس والحمولة»، استخدم كنتريدج نصوصا متنوعة من مصادر متعددة، بما في ذلك أعمال مفكرين وشعراء من حقب زمنية مختلفة، مثل فرانز فانون، المناضل ضد التمييز والعنصرية، وتريستان تزارا، أحد رموز حركة دادا الفنية. وقد تمت ترجمة هذه النصوص إلى العديد من اللغات الإفريقية، ما أضاف بعدا ثقافيا غنيا للعرض، وجعل من العمل منصة لتبادل الأفكار حول الحرية والهوية والصراع ضد القمع.
انتصارات ومرئيات.. عرض موسيقي يتأمل تاريخ المدينة
خلال العمل على عرض مسرحي موسيقي بعنوان «انتصارات ومرئيات»، حول كنتريدج حوائط ضفة النهر إلى شاشة ضخمة لخيال الظل، تتبدى عليها شخصيات وأشكال متداخلة، تستخدم كخلفية لعرض مسيرة تضم ممثلين وراقصين وعازفين ومغنين. ومن خلال الضوء الذي يسقط على الحوائط، تظهر الظلال كعرائس خيال الظل، وكأنها ومضات تكشف تاريخا طويلا للمدينة، يمتد لآلاف السنين ويعكس ما تحمله من أمجاد وانكسارات.
عودة أوليسيس.. أوبرا بصرية حول حتمية النهاية
في عرض «عودة أوليسيس»، المستوحى من أوبرا الملحن مونتفيردي، شكل كنتريدج حالة بصرية مبهجة عند لقاء أوليسيس، بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس، مع زوجته بينيلوب، ومع ذلك، لا يوقف هذا اللقاء أو يؤخر مصير أوليسيس المحتوم، ما يمثل تذكيرا بحتمية النهاية رغم وجود الأمل.
بورتريه شخصي على هيئة وعاء قهوة.. تباين الفن واللغة
في سلسلة من الأعمال الفيديوية ذات الطابع الأدائي، قدم كنتريدج «بورتريه شخصي على هيئة وعاء قهوة»، مستعرضا التباين الضمني بين حرية لغة الفن في الأوسوناتا، وخطابات تشيلمبوي، واستخدام اللغة الإنجليزية. حيث تتنقل هذه الأعمال بين تعبيرات فنية متنوعة، ما يبرز التوتر بين الأبعاد الثقافية واللغوية، والحرية التعبيرية داخل سياقات مختلفة.
فاوست في إفريقيا.. استعمار وبيع الروح
أثناء عمله على مسرحية «فاوست» للكاتب غوته، قدم كنتريدج عرضا فنيا تدور أحداثه في إفريقيا تحت وطأة الاستعمار. في هذه النسخة، يبيع فاوست، بطل المسرحية، روحه مقابل حقه في نهب القارة الإفريقية بلا عوائق، وتحويل غاباتها إلى أهداف سهلة في مرمى نيرانه. من خلال هذا التفسير، يعكس كنتريدج الصراع التاريخي بين الاستعمار وحقوق الشعوب، مسلطا الضوء على الاستغلال العنيف الذي تعرضت له إفريقيا.
أوبرا لولو.. لغة بصرية تعكس التحولات المستمرة
خلال عمله على مشروع أوبرا «لولو»، ابتكر كنتريدج لغة بصرية فريدة تجمع بين الإكسسوارات المسرحية المصنوعة من الورق ورسومات الحبر. كل رسم يتكون من أوراق متعددة، تحرك وتبعثر في الهواء، ثم تجمع مرة أخرى في أفلام الرسوم المتحركة التي تعرض على ستائر المسرح الخلفية، ما يخلق تأثيرا ديناميكيا يعكس عدم ثبات الرغبة وتحولاتها. هذه الحركة المستمرة للأوراق تمثل صورة متقلبة لشخصية لولو، التي تتغير باستمرار رغم مقاومتها الدائمة للتغير.
رفض الزمن.. بين البحث العلمي والفرجة المسرحية
أثناء تطويره لمشروع أوبرا «رفض الزمن»، لم يسع كنتريدج لترجمة التساؤلات حول الزمن بصريا، بل طرح بناء فنيا يعتمد على تركيبات قصصية ونصوص تلامس الحدود بين البحث العلمي المجرد والفرجة المسرحية. من خلال هذا العرض، يقدم رؤية فنية تجمع بين الفكر التجريدي والتجربة المسرحية، ما يفتح أمام الجمهور أفقا للتفكير والتأمل في مفهوم الزمن.
أنا لست أنا والحصان ليس لي.. تأويل معاصر لعبثية غوغول
في عرض مستوحى من قصة الكاتب نيقولاي غوغول «الأنف»، استخدم كنتريدج الفيديو كوسيط فني مبتكر، حيث امتزج خيال الظل مع رسوم التحريك، إلى جانب مشاهد مصورة وأخرى أرشيفية. في هذا التجهيز الفني، يعيد كنتريدج إحياء أصداء القصة العبثية والفريدة لغوغول، محولا إياها إلى سياق الحياة المعاصرة، ليعرض تداخل الواقع والخيال بأسلوب بصري معاصر يعكس التوتر بين الفرد وهويته.
تصوير: السيد رمضان