05 ديسمبر 2024

إنعام كجه جي تكتب: قتلها وقفز من النافذة

صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس

مجلة كل الأسرة

كل يوم جريمة شكل. نسمع بها من خبر يتصدر النشرات مع أخبار انتخابات البرلمان الأوروبي، وإضراب عمال القطارات، وتصاعد قيمة العملات الرقمية. والخبر المتكرر الذي أعنيه، هو ذلك الذي يتعلق بامرأة ذبحت أطفالها الثلاثة، انتقاماً من خيانة زوجها. أو الرجل الذي اغتصب شابة في الغابة، ثم قتلها. أو العجوز التي اقتحم لصّ شقتها، وأشبعها ضرباً حتى الموت، لأنه لم يجد لديها نقوداً.

أخبار عادية، رغم أنها مرعبة تبعث القشعريرة في النفوس الطيّبة، وحتى النفوس الشريرة. لكن خبر هذا الصباح كان من نوع أشدّ وقعاً. وصاحب الحكاية هو رجل تجاوز الخمسين من العمر، يعيش أيامه معذباً بذكرى والدته التي عانت داء الزهايمر. ليس مرضها هو ما كان يؤرقه، بل نهايتها التي لا تشبه نهايات المرضى الذين نراهم ينطفئون حولنا.

يقول الراوي في مقابلة منشورة معه هذا الصباح، إن شقيقته اتصلت به هاتفياً في ساعة مبكرة، وطلبت إليه الحضور سريعاً إلى بيت العائلة في باريس. قالت إن هناك حادثاً طارئاً يخصّ الوالدين. وبما أنه يقيم في جنوب فرنسا، فقد أخذ أول قطار، ومختلف الأفكار تدور في رأسه. كان يدرك أن والدته التي تجاوزت الثمانين مصابة بنوع متقدم من الخرف. وتصوّر أنها ماتت، وأن والده لم يتحمّل فراقها فانتحر. كان يعشقها عشقاً خرافياً، وقد تزوجا وهما في سنّ مبكرة، وعاشا متلاصقين لأكثر من ستين عاماً.

وصل بيت الأهل ووجد سيارات الشرطة أمام العمارة. وكان الحادث أسوأ ممّا تصور. عرف أن أباه طعن أمّه طعنات قاتلة، ثم قفز من نافذة الطابق العالي. وكان هناك مسدس متروك على الأرض. ويبدو أن الأب أراد في البداية إطلاق النار على زوجته المريضة، لكن السلاح القديم لم يعمل.

لماذا تستعيد الصحف هذه الواقعة التي جرت في الربيع الماضي؟ لأن البرلمان الفرنسي يعود لمناقشة قضية ما يسمى بالموت الرحيم. هناك من يطالب بقانون يسمح بإنهاء حياة مريض في حالة ميؤوس منها. ولكن من يحدّد الحالة الميؤوس منها؟ الطبيب، أم المريض نفسه، أم عائلته؟ ألا يكون هذا الفعل بمثابة القتل الذي يعاقب عليه القانون؟

صاحب الحكاية يتبنّى اليوم جانب تشريع قانون يبيح الموت الرحيم، أو القتل الرحيم. فلو كان مسموحاً للأطباء بإنهاء عذابات والدته لما أخذ الأب المبادرة وأنهى معاناتها، وكذلك معاناته معها. كان سيدخل السجن لو لم ينتحر.

في سنّ الشباب، يتبادل الأصدقاء الأمنيات بالنجاح، والثروة، والحب، وطول العمر. أما في الشيخوخة فإن غاية ما يتمناه المرء هو أن يموت بكرامته. أي ألّا يجد نفسه مقعداً، أو مريضاً لا يستطيع تدبير شؤونه اليومية، وتنظيف نفسه. وفي هذه البلاد الأوروبية، فإن المسنين يجدون أنفسهم محكومين بالإعدام العاطفيّ، حين يتركهم الأبناء في دور العجزة، ولا يزورونهم إلّا في العيد.

كان جاري قد تجاوز التسعين حين أصيب بورم خبيث في الكبد. قال الأطباء لابنته إنه في غيبوبة بفعل العقاقير المنوّمة، ولن يحتمل العملية، ولا العلاج الكيماوي. نصحوها بالموافقة على اتخاذ إجراء بوقف جهاز التنفس الاصطناعي. كانت خائفة، وحزينة، ومتردّدة، وجاءت تسألني رأيي. تولاني الفزع. هل يجوز للإنسان أن يقرّر موت إنسان آخر؟