كلّنا نشكو من حين لآخر، الإجهادَ الناتج عن ضغط العمل، ونحتاج من فترة إلى أخرى، إلى الراحة لنشحن بطارية الطاقة من جديد، قبل أن نواصل المسير في درب اخترناه لأنفسنا، ونحن سعداء بما نقدمه من عطاء يعود نفعه على أنفسنا، وعلى الشركات التي نعمل فيها. وحينما يكون الإجهاد في مكان عمل مريح، وضمن وظيفة نحبها ونبدع فيها، تكون استعادة الطاقة سريعة، ومفيدة. لكنَّ بعض الموظفين قد يقعون فريسة نوع آخر من الإجهاد، أو الاحتراق الوظيفي، وهم أولئك الذين لا يشعرون بقيمتهم في مكان عملهم، أو يرون أنهم يستحقون أكثر، بما يملكونه من مهارات وقدرات وظيفة أخرى.
الشعور بالإحباط وعلاقته بالإجهاد
إذا كنت تشعر بأنك غير مُقدّر في مكان عملك، على الرغم من الجهود التي تبذلها لتقدم أفضل ما لديك، أو إذا كنت تشعر بأن وظيفتك لا تناسبك ولا تتماشى مع طموحاتك، فقد تتعرّض للإرهاق، ليس بسبب ضغط العمل، وإنما بسبب الأفكار التي تجول في رأسك، وتجعلك غير متقبّل لوظيفتك، أو لمركزك.
ولهذا النوع من الاحتراق الوظيفي الذي لا يظهر سببه واضحاً، علامات تحذيرية يمكن الوقوف عندها. فقد يكون ما تعانيه مجرد وهْم، تقودك إليه أفكارك وقناعاتك الشخصية، فتشعر بأنك تعمل في مكان لا يناسبك.
وفي هذا الصدد، يتحدث عالم النفس الأمريكي «مارك ترافرز»، الذي شارك في تأسيس منصة «Awake Therapy» للعلاج عن بعد، عن فكرة الإجهاد الناتج عن التعارض ما بين التقدير الذاتي، وطبيعة العمل، وما يرافقه من إرهاق جسدي، وعاطفي، وعقلي، بسبب استثمار الطاقات لمدة طويلة في وظيفة تتعارض مع القناعات، والمبادئ، والأخلاقيات التي يراها الموظف قاعدة أساسية في حياته، كأن يشعر الموظف الذي يهتم بقضايا البيئة، ويتعمق فيها، بالإحباط عندما يعمل في شركة لا تهتم بمثل هذه القضايا، ولا تشارك في إيجاد حلول لظاهرة الاحتباس الحراري.
دوران مستمر في دوّامة
قد يغوص الموظف المنتج بسبب عدم الراحة النفسية في مكان عمله في دوّامة تصاعدية، يتعرّض فيها للضغوط النفسية الوهمية التي لا تختلف عوارضها عن متلازمة الإرهاق الناتج عن ضغط العمل الطبيعي، والتي تنعكس على الجوانب الجسدية، أو العاطفية، أو المعرفية لديه. وقد يؤدي هذا الشعور إلى صعوبة انخراط الشخص في مهماته الوظيفية انخراطا تاماً، فيبدأ بالانسحاب تدريجياً، ويضيق ذرعاً بمن حوله، وقد يُبدي بعض العداء تجاه زملاء العمل، وفي أحيانٍ كثيرة، قد يقرّر الاستقالة بزعم أنه لم يجد نفسه في مكان عمله.
الشباب أكثر الشاكين
أثبتت دراسات واستبانات أن الموظفين الشباب يبحثون، أكثر من سواهم، عن العمل في شركة تقدّر مواهبهم، وتستثمر قدراتهم، وأنهم غير مستعدين للتنازل عن مبادئهم الوظيفية والبيئية عند الانخراط في سوق العمل.
وقد أظهر استطلاع، أجرته مجموعة «Toluna Harris Interactive» البريطانية، أن 57% من الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً، مستعدون للاستقالة من وظائفهم في حال وجدوا أنفسهم يعملون في شركات لا تستثمر في مكافحة التغيّر المناخي كما ينبغي.
ويرى الخبراء أن لهذه النتيجة علاقة بالزمن ؛ فالفرد المعاصر، في رأيهم، يعيش اللحظة الحالية ويبذل مجهوداً ليكون بارزاً في المستقبل، لذا تراه متحمّساً لممارسة عمل يهمه، ويناسبه على المستوى الشخصي، أكثر من حماسه للانغماس في مهنة يكسب منها خبرة ومعلومات تخوّله الاستمرار فيها مدى العمر، ما أدى إلى انتشار ظاهرة «التنقل بين الوظائف» بين الشباب.
وقد بيّن استطلاع أجرته شركة «Resource Solutions» البريطانية كذلك، أن ثلثي أبناء الجيل Z الذين شملهم الاستطلاع يخططون للاستقالة من وظائفهم في الشركات التي يعملون فيها خلال العامين المقبلين.
إعادة التفكير في نمط العمل
وفي هذا الإطار، يحث الخبراء الشركات على التفكير جدّياً، في التأثيرات الاجتماعية، والمجتمعية، والبيئية، عند ممارسة أنشطتها وأعمالها إذا كانت ترغب في تعزيز حافز العمل لدى موظفيها، ومنع الشعور بالإرهاق الناتج عن عدم التوافق بين ما يفكّرون فيه، وما تقدمه لهم. وهم ينصحون أصحاب الشركات بتوضيح أهدافهم للموظفين قبل التعاقد معهم، كي لا يشعر هؤلاء بأنهم سجناء داخل أماكن عملهم التي تتعارض مع قيمهم، وتطلعاتهم، وطموحاتهم، ولا تتماشى مع نظرتهم لأنفسهم.