29 ديسمبر 2024

خلود الجابري: الفن مرآة تعكس جوهر قيمنا وأصالة حضارتنا

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

اكتشفت الفنان الذي بداخلها من خلال تعلّقها بالطبيعة والبيئة الثرية المحيطة بها، انطلقت إلى عالمها الخاص من داخل فريج المرر بشاطئ دبي، حيث أخشاب السفن، وبراجيل البيوت، وأشجار اللوز، فكان المرسم بيتها الذي ترتاح فيه، والريشة واللوحة أدواتها التي لا تفارقها، ومرحلة الطفولة القبس الذي تستلهم منه الأفكار..

هي الفنانة التشكيلية خلود الجابري، التي التقيناها في مرسمها لنتعرف إلى جانب من مشوارها الفني:

مجلة كل الأسرة

تنتمين إلى بيئة خليجية ثرية بالمناظر الطبيعية، حدثينا عن نشأتك وكيف أثرت في تشكيل شخصيتك

اكتشفت الفنان الذي بداخلي مبكراً، من خلال علاقتي مع الطبيعة والبيئة الثرية المحيطة بي، وشغفي الكبير بتأمّل الأشياء بتفاصيلها، وأشكالها، وألوانها، فقد كنا نسكن في فريج المرر بدبي، عام 1969 على شاطئ البحر، وكان المكان يعج بأخشاب بناء السفن، وتحيط بمنزلنا براجيل بيوت كثيرة، بعضها من الطين، والبعض الآخر من القماش وألواح الخشب، وكانت أشجار اللوز في كل منزل، ومن كان لديه تلفزيون كل الجيران يجتمعون في بيته، فزادت اللحمة بين الناس، وترابطت حكاياتهم، وزادت جلساتهم، ما أثرى تفكيري، وزاد من وعيي وتفهّمي لأمور كثيرة على يد ساكني هذا الفريج.

عشت وسط أجواء عائلية محفزة ساعدتني لأتّبع ضوء قلبي الذي قادني إلى الفن

تستلهمين أفكار لوحاتك من الطفولة.. كيف أثرت فيك تلك المرحلة، ومن أول من اكتشف موهبتك؟

إذا أردت أن تبحث عن الهوايات، ففتش في مرحلة الطفولة حيث مقاعد الدراسة. فعندما كنت في السابعة من العمر، كانت دهشتي كبيرة عندما طلبت مني معلمتي أن أرسم على سبورة الفصل «عروس البحر»، وعندما انتهيت طلبت من زميلاتي التصفيق لي، وكنت سعيدة بهذا الموقف الذي أعطاني حافزاً كبيراً لأن أرسم أي شيء، ليكون لوالدي، رحمه الله، الأثر الكبير في بلورة شغفي بالرسم، فقد كان محباً للحياة، يسمع الموسيقى، ويشتري الورود، ويحب التنزه، وأتذكر كم كان حريصاً على جلب القصص المصورة والملوّنة، لي ولإخوتي، والتي تحكي عن الأساطير، ويجلس ليرويها لنا.. كل تلك الأجواء أثرت في ملامح شخصيتي، فاتّبعت ضوء قلبي الذي قادني إلى الفن.

مجلة كل الأسرة

درست الإعلام ثم حصلت على دبلوم في إدارة الأعمال، فما السّر في الاتجاه لمجال الفنون؟

مع عدم وجود جهات تعليمية فنية بالدولة، في ذلك الوقت، ومع صعوبة السفر لدراسة الفن في الخارج آنذاك، التحقت بقسم الإعلام في كلية الآداب، وكنت وقتها أمرّ بعمر مراهقتي الشخصية، والفكرية، والفنية، الأمر الذي دفعني إلى إشباع رغبتي في المعرفة كنوع من السؤال عن هذا الذي اسمه «الفن». فاندمجت فيه، وبدأت أهتم بمجال التصوير الفوتوغرافي حسب تخصصي، وتعويضاً عن شيء أبحث عنه، وبدأت أشارك في معارض الفنون في الجامعة، ومع نهاية سنة التخرج تم الإعلان عن افتتاح المرسم الحر في المجمع الثقافي بأبوظبي، وتم تنظيم أول دورة فنون تشكيلية، وذهبت للتسجيل، وكنت أول طالبة تلتحق بدورة الرسم لمدة 5 أشهر، وبعدها شاركت في أول مسابقة للفنون التشكيلية لدول مجلس التعاون الخليجي في البحرين، لأحصل على المركز الأول عام 1986. وبعد تخرجي في الجامعة قدمت للعمل في المجمع الثقافي بأبوظبي، وبعدها شاركت في تأسيس جماعة أصدقاء الفن بأبوظبي التي انطلقت من المجمع الثقافي، وما لبثت أن أصبحت مسؤولة قسم المعارض في المجمع الثقافي عام 1989، ونظمت الكثير من المسابقات والمعارض الشخصية، داخل الدولة وخارجها.

مجلة كل الأسرة

كيف تأتي الأفكار الفنية، ومن أين تستلهمها خلود الجابري؟

استلهم أفكار لوحاتي من طفولتي، وأمزج الخيال مع الألوان ليعكس جمال ومرارة المحطات التي واجهتها في حياتي، حيث شققت جدران التحدي لأبني لنفسي طابعي الخاص، فرغم كل التحدّيات والعثرات الكثيرة، استطعت أن أجعل من القسوة التي واجهتها في حياتي درساً جميلاً أتخطى به تلك المصاعب، والمحن، فعبرت تلك التيارات بروح قوية ليبتسم لي القدر، ويجعل لوحاتي ممزوجة بالفرح.

تستخدمين الرمزية في تناول تراث الإمارات، كيف أسهم ذلك في ثراء أعمالك الفنية؟

عشت طفولتي داخل لوحة فنية تراثية يمتزج فيها البحر، بالعمارة التقليدية المحلية، وبصناعة السفن، ساعدتني تلك الأجواء على الارتباط بالكتب التراثية، فحوّلت ما تخطّه السطور من كلمات إلى لوحات، فرسمت البيوت وهي رمز السكن، والمحبة، والسلام، ورسمت المرأة وهي رمز للقوّة والعطاء، وغيرها من الرموز التي تعبّر عن تراث هذا الوطن الذي يعيش في وجدان أبنائه.

خلود الجابري أثناء جولة في أحد معارضها
خلود الجابري أثناء جولة في أحد معارضها

تعتبرين الفن وسيلة للتعبير عن ذاتك، والفرشاة هي ريشتك وجناحك التي تطيرين بها إلى الأفق الواسع، حدثينا عن أكثر ما يحرّك مشاعرك.

الرسم يعني لي الحياة، وهو الإحساس بالوجود بالنسبة لي، والعالم الذي أشكله كيفما أريد، وأوظفه لأبدع بحرية، فعن طريق الرسم أعيد ترجمة حياة الطفولة، والذكريات الجميلة التي عشتها في مراحل مختلفة، وفي أوقات متباينة، وكل هذا يجعلني أهرع إلى اللوحة وأمنحها عالمي الخالي من التعقيد، والمفعم بالحرية، فأرسم المرأة الإماراتية بشموخها، وصبرها، وعزتها، كرمز للعطاء والجمال، وأرسم المفردات المحيطة بي والتي تحاكي روحي وتبهج نفسي، وأرسم.. وأرسم، لأكون موجودة كإنسانة حرّة تعبّر عن المرأة الإماراتية، وعن الحياة، وعن المستقبل، وعن الجمال، وعن السلام.

لوحاتي شاهدة على العصر الذهبي للمرأة الإماراتية

المتابع لأعمالك يدرك تقديرك للمرأة العربية عامة، والإماراتية خاصة، فما سبب هذا التأثر تحديداً؟

بطبيعة الحال درست وتعلّمت وعملت مع مختلف الجنسيات، وتعرفت إلى عادات وتقاليد معظم الدول، بخاصة تلك المتعلقة بالمرأة، فأردت أن أعبّر عمّا أحلم به، وما تحلم به كل نساء العالم، فكنت أرسم بحرية، ومن دون قيود كي يصل صوتها، وترى نفسها في لوحاتي، وإن كانت المرأة في الإمارات أكثر حظاً، فمنذ بداية الاتحاد توفر لديها التعليم وفرص العمل، فخاضت مجالات عدّة في شتى مناحي الحياة، كل ذلك ترجمته من خلال لوحاتي لتكون شاهدة على عصرها الذهبي.

مجلة كل الأسرة

ما تقييمك للحركة الفنية والتشكيلية في الدولة، وهل يحظى الفنانون بالفرص الكافية للتعبير عن ذواتهم؟

منذ تأسيس الدولة، نهضت حركة الفنون التشكيلية بتأسيس جمعية الإمارات للفنون التشكيلية في الشارقة، ومن بعدها تم تأسيس مؤسسات ومراكز ثقافية كثيرة كانت تعنى بالفن، والمسابقات الشبابية. وقد تم تأسيس جزيرة السعديات، وتأسيس المتاحف الفنية، وغيرها، في جميع أنحاء الدولة، ما يعكس نهضة غير عادية أسهمت في استقطاب المهتمين والمقتنين من العالم إلى الإمارات، فالفرص موجودة، وعلى الفنان أن يطوّر من نفسه من خلال التجارب الفنية المختلفة حتى يضيف شيئاً جديداً إلى الفن.

ما مدى تأثير الرسم في الجمهور العربي؟

الفن مرآة تعكس جوهر قيمنا وأصالة حضارتنا، ففيه محاكاة لقصص وقضايا كانت، ولا تزال، تعبّر عن ماضينا وحاضرنا، وهو توثيق يجسد أحوال الناس على مرّ العصور، وباب يفتح أذهاننا على عادات كل منطقة، والتقاليد المتوارثة، ينطبق ذلك على الرسم، فتأثيره في الجمهور العربي كان، ولا يزال، كبيراً على مرّ الأزمان.

جانب من أعمالها
جانب من أعمالها

حدثينا عن طقوسك عندما تتملّكك حالة مزاجية ما، وهل لك وقت محدد للرسم؟

عندما أريد أن أرسم أبدأ بترتيب المرسم، والأدوات، وأحياناً أرسم «إسكتش» للفكرة، أو أرسم على الكانفس من دون تحضير تلقائي، وفي الأغلب أبدأ عملي من دون تخطيط مسبق، وعندما يتملّكني الإلهام لا أتوقف حتى أنتهي، ودائماً ما يتملكّني الشعور بالتعبير عن ذاتي من خلال الرسم في المساء، وقت الهدوء والسكينة.

ما أهم عمل فني أنجزته وما زلت تتذكرينه وتحاولين تكرار نجاحه؟

لكل عمل رسمته قصة، وتجربة، وذكريات تركت أثراً كبيراً في حياتي، وإن كانت لوحة «المرأة بين الماضي والحاضر»، التي رسمتها بألوان الزيت في 1986،أهم تلك الأعمال، إذ كانت تجسد حياة المرأة الإماراتية قبل ظهور النفط، حيث البساطة، والقوّة، والطموح، وبعد الاتحاد، حيث الانطلاق واقتناص الفرص، وقد عرض هذا العمل في أول معرض للسيدات في المجمع الثقافي بأبوظبي، وبرغم مرور كل هذه السنوات ما زال محل إعجاب وتقدير الجميع، وهنالك بعض الأطفال يقلدون اللوحة في ورشهم، وهو ما يسعدني كثيراً.

مجلة كل الأسرة

حصلت على لقب أفضل فنانة عربية في مجال الفنون التشكيلية لعام 2010، حدثينا عن هذه الجائزة وما تركه اللقب بداخلك من أثر.

فوجئت في عام 2010 باتصال يخبرني فيه المتحدث بأنني فزت بلقب أفضل فنانة عربية في مجال الفنون التشكيلية، وتم تكريمي في الدورة الثانية لجائزة لوفيسيال للمرأة العربية، لتكون تلك الجائزة بمثابة البوصلة التي مكنتني من تكثيف نشاطي الفني، وزادت مشاركاتي الخارجية، التي كنت أمثل فيها الدولة بمجال الفن.

مجلة كل الأسرة

حدثينا عن أسرتك ومن أكثر من أسهم في تعلقك بالرسم

نحن 6 من الإخوة والأخوات، ورثنا حب الفن من والدي، رحمه الله، الذي كان يشجعنا، ويأتي لنا بالكتب الملوّنة المملوءة بالقصص والحكايات، وهناك من إخوتي من كانوا يميلون إلى التصميم الداخلي والديكور، في وقت لم يكن هناك وجود لهذا الفن في فترة السبعينات، إلا أن هذا لم يعجزهم عن أن يبدعوا في ما يحبون. ووسط زخم هذه الأجواء تعلقت بالرسم، وكان يدعمني إخوتي، ويشجعونني، ويأتون لي بالصور التي تعبّر عن التراث لأرسمها، كل هذا أسهم في زيادة تعلقي بالرسم، وبالفن بشكل عام.

ما الذي تتمنين إضافته إلى الحركة الفنية التشكيلية بالدولة في السنوات المقبلة؟

تأسيس متحف وطني للفنانين الإماراتيين، وأن أسهم بمجهودي فيه لتقسيم الحقب الفنية التي تدرّج بها المبدعون في هذا المجال، وتوثيق من استمر، ومن ترك الفن، وأن يكون هذا المتحف مرجعاً للوثائق والصور القديمة والتراثية التي تحمل بين ثناياها ماضياً مرّت عليه سنوات طويلة.

* تصوير: السيد رمضان