05 يناير 2025

د. حسن مدن يكتب: آفة النرجسية

كاتب بحريني، يكتب زاوية يومية في جريدة "الخليج" الإماراتية بعنوان "شيْ ما"، صدرت له مجموعة من الكتب بينها: "ترميم الذاكرة"، "الكتابة بحبر أسود"، "للأشياء أوانها"، &a

مجلة كل الأسرة

يطلق وصف «النرجسية» على الأفراد الذين يميلون إلى رؤية أنفسهم بأنهم الأجمل والأفضل والأكفأ من سواهم، خاصة من زملائهم في العمل، أو نظرائهم في التخصص، أو حتى في الموهبة والقدرات، حيث تشيع النرجسية في أوساط الفنانين والأدباء وربما حتى الرياضيين وغيرهم، ويُعرّف الشخص النرجسي بأنه «عاشق لنفسه»، يرى الآخرين دائماً أقلّ منه مكانة وموهبة وحضوراً؛ «ولذلك فهو يُبيح لنفسه استغلال الناس والسخرية منهم»، ويرى بعضهم أن النرجسية ضرب من الأنانية، الآتية من الاعتداد بالذات.

ولأن هذا الاعتداد لا يقابل بالترحيب من الآخرين، فإن النرجسي يستفزه التجاهلُ من هؤلاء الآخرين، ويثير غيظه أي نقد أو مأخذ يُوجّه إليه، فهو لا يريد أن يسمع إلا المديح والثناء، ومن أجل إرضاء غروره لا يتورّع النرجسي عن استغلال الآخرين من أجل تعظيم ذاته، وبلوغ مقاصده، في أن يكون هو «أولاً». وتقترن هذه الرغبة بمشاعر الغيرة من نجاح الآخرين، الذين يعدّهم النرجسي منافسين له، يحولون دون تحقق نرجسيته.

سؤال طرحه باحثون على أنفسهم عما إذا كان للنرجسية علاقة بالعمر، بمعنى أنها قد تتجلى بصورة كبرى في سنوات الشباب وبدايات التحقق، ثم تنخفض مع تقدّم العمر، أم أن النرجسي يظلّ نرجسياً حتى الموت؟

من أجل ذلك قام هؤلاء الباحثون بتحليل واحد أو أكثر من ثلاثة أنواع مختلفة من النرجسية، هي على التوالي: الفاعلية المسيطرة والعدائية والعصابية. وفي تعريف هذه الأنواع الثلاثة نقرأ أن النرجسية الفاعلية تشمل مشاعر العظمة أو التفوق والحاجة القوية إلى الإعجاب، بينما تتضمن النرجسية العدائية الغطرسة والاستحقاق والقسوة وانخفاض التعاطف، أما النرجسية العصابية فتشمل خللاً في التنظيم العاطفي وفرط الحساسية.

نتائج الدراسة أظهرت أن الأنواع الثلاثة من النرجسية تتراجع مع تقدم العمر، دون أن ينفي ذلك أن نرجسية الناس بالنسبة لأقرانهم لم تتغير بشكل ملحوظ مع مرور الوقت، فالأشخاص الذين كانوا أكثر نرجسية من المتوسط ​​في مرحلة الطفولة، ظلوا أكثر نرجسية من المتوسط ​​في مرحلة البلوغ، ومع ذلك فإن الأدوار الاجتماعية التي تتخذ في مرحلة البلوغ، كدور الشريك مثلاً أو الوالد وما إلى ذلك، تؤدي إلى تطوير خصائص شخصية أكثر نضجاً، بما في ذلك مستويات أقل من النرجسية.

على صلة بالموضوع، كشفت دراسة أخرى أجراها باحثون من جامعة ميسيسيبي، أن الكلمات والعبارات المستخدمة في إعلانات الوظائف قد تكون مؤشراً على النرجسية لدى المتقدمين. فوفق الدراسة، التي شارك فيها 248 مشاركاً، درس الباحثون الكلمات التي ينجذب إليها الأشخاص الذين حصلوا على درجات أعلى في النرجسية في إعلانات الوظائف، ووجدوا أن المتقدمين النرجسيين يفضلون الكلمات التي تعني التركيز بشكل أساسي على تحقيق الأهداف المقررة مثل: «طموح»، كما أنهم يميلون أيضاً إلى إعلانات توظف الأشخاص الذين يتمتعون بقدرة على «التفكير خارج الصندوق» و«الإبداع»، ما يجعل الشخص النرجسي، حسب المعدّ الرئيسي للدراسة، مستعداً لتجاهل القواعد إذا لزم الأمر، على الأقل من أجل مصلحته الخاصة.

النرجسية لا تظهر في عالم الوظائف وإدارة الأعمال. إنها آفة لها تجليّات كثيرة في الحياة، وتزداد خطورتها حين يبلغ النرجسي موقع القرار، وتصبح الخطورة أشدّ وأشدّ كلما علا موقع القرار الذي يتبوؤه؛ لأن دائرة المتضررين من نرجسيته تتسع، حتى تبلغ في بعض الحالات شعباً أو أمة بكاملها، لو قيّض لنرجسي أن يكون على قمة الهرم.

اقرأ أيضاً: ما أشكال النرجسية الأكثر خطورة وكيف تؤثر في حياتنا؟