«فارقت الحياة في 16 أكتوبر 2014». هذا ما تخبرنا به آن كارين، وهي ترسم على وجهها ابتسامة لطيفة. لقد مرّ على تلك الواقعة 10 أعوام، عندما كانت السيدة الفرنسية الشابة دون الثلاثين من العمر، وكانت تعمل في شركة للدعاية والإعلان، في باريس. لقد مضى عليها في تلك الشركة سنوات عدّة، وكان زملاؤها ينادونها باسم آن فقط.
قبل 3 أيام من ذلك التاريخ، عاشت اللحظة التي تقول إنها تحب أن تؤرخ لها بحجر أبيض في مسيرة حياتها. ففي ذلك اليوم كانت تشتغل في بيتها، وعلى وشك الانتهاء من إعداد مشروع كبير لتقديمه لأحد الزبائن في اليوم التالي، حينذاك، شعرت كأن أحداً طعنها بخنجر في بطنها. جرى الاتصال بالإسعاف، وحضر الطبيب، ووصف لها دواء لتسكين الألم. وفي الصباح التالي، ذهبت إلى المكتب لكي تعرض المخطط المقترح، حسبما هو مقرر، لكنها شعرت بأنها ليست على ما يرام. وجدت صعوبة في الحركة، وكان مستحيلاً عليها أن تبتلع أي شيء.
هل فارقت الحياة؟
تصوّرت الموظفة النشيطة أنها تعاني أعراض ما يسمى بـ«إرهاق العمل». وهو مرض يشبه الانهيار العصبي الذي تتسبب به ضغوط المسؤوليات والأجواء المتوترة، في المكتب.
اتصل زملاؤها بوالديها اللذين نقلاها إلى قسم الطوارئ لإجراء فحص شامل. وهناك أصيب الطبيب بمفاجأة جعلت النظّارة تسقط عن عينيه. كان التشخيص أن لدى الشابة زائدة دودية حادة تسببت بما يسمى «التهاب الصفاق»، أي الغشاء الذي يبطّن جوف البطن، ويعمل على الحفاظ على الأحشاء الداخلية، وإيصال الدم، والسائل اللمفي، والأعصاب إليها.
تم نقل المريضة إلى غرفة العمليات على الفور. وحين استيقظت صباح 16 أكتوبر، قال لها الجراح الذي أجرى العملية إنها محظوظة. وهي تقول اليوم إنها فارقت الحياة في ذلك اليوم بفارق سويعات معدودة. نهضت بصعوبة من سرير المستشفى لتذهب إلى الحمّام. نظرت في المرآة فرأت وجهاً آخر لا يشبهها. وبدل وجه الشابة التي لم تبلغ الثلاثين بعد، طالعها وجه عجوز هزيل، وشاحب. كانت هناك خصلة رمادية ظاهرة وسط شعرها الأسود.
تقول آن كارين «بالكاد عرفت نفسي. جاء الطبيب ومنحني استراحة لمدة شهر. بقيت في بيتي فترة، وكان عليّ السفر إلى الهند للالتحاق بدورة في رياضة التأمل و«اليوجا»، كنت قد خططت لها منذ وقت سابق. وعند عودتي بدأت العمل في شركة أخرى، لكن المناخ العام كان أسوأ من الأولى. ومع هذا، حاولت التأقلم، والاهتمام بصحتي. لكنني لاحظت أنني أفقد المزيد من الوزن بشكل ملحوظ للعيان، فقررت مراجعة طبيب نفسي للمرة الأولى في حياتي».
التزمت آن كارين بتوصيات الطبيب بكل حرص. كانت بعد كل جلسة علاج تعود وتسجل على الورق تفاصيل ما دار فيها. صار لها ما يشبه دفتر اليوميات الخاص بحالتها، النفسية والعقلية. وراحت تكتب حتى ما تحلم به أثناء النوم، وأيضاً الكوابيس، فقد كانت كوابيسها كثيرة، بحيث إنها استمعت إلى نصيحة الطبيب بضرورة البحث والتنقيب في ماضيها.
فالشابة التي نشأت في أسرة من الفنانين، ودرست الاتصالات، راحت تتساءل عن سر اسمها الأول المركّب، آن كارين الذي منحه لها والداها عند مجيئها إلى الحياة. واكتشفت أن والدها كان معجباً بممثلة تحمل الاسم نفسه، من فنانات الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. وفي طفولتها كانت تخجل من الاسم، وقررت أن تقول لرفيقاتها إن اسمها آن. كانت تلميذة هادئة ومجتهدة، ولم يحدث أن تمرّدت في أي يوم.
المرة الوحيدة التي نوديت فيها باسم آن كارين كانت في لندن، حيث أمضت سنة للدراسة في معهد للفنون. فهناك كان اسمها لا يزعجها، لأنهم لا يعرفون النجمة الفرنسية التي تشترك معها في الاسم. لكن حال عودتها إلى فرنسا، ودخولها ميدان العمل في الدعاية والإعلانات، عادت إلى اسم آن، الموظفة المجتهدة. وبعد 9 أشهر من مواصلتها العلاج النفسي، أبلغها الطبيب أنها تعافت، وتستطيع أن تنسى الماضي، وتحلّق بجناحيها من دون مساعدته. لكن عقلها كان يتمخض عن فكرة جديدة. لقد أرادت توثيق تجربتها.
«حفلة جنازتي»
جلست أمام الحاسوب وراحت تكتب على بريدها الإلكتروني رسالة بعنوان «حفلة جنازتي»، أرسلتها إلى صديقاتها وأصدقائها المقربين. وفي 16 أكتوبر 2015، بعد عام من موتها المفترض في المستشفى، وحسب الموعد المحدد في رسالة الدعوة، استقبلت في شقتها أولئك الأصدقاء، وهي مرتدية ثياب الحداد، وكان أثاث غرفة الاستقبال مغطى باللون الأسود، والأجواء شبيهة برواية «عودة إلى الوراء»، للمؤلف الفرنسي جوريس كارل هيسمان.
كانت هناك شموع سوداء في أرجاء الشقة الصغيرة الواقعة في حي «بيلفيل» الشعبي العتيق. وعلى الحائط كتبت عبارة للفيلسوف جان بول سارتر جاء فيها: «لا أحد يولد إلا إذا ولد مجدداً». وحتى أطباق الطعام في «البوفيه» كانت مؤلفة من مأكولات سوداء اللون، مثل خبز محمّص مغطّى بطبقة من حبوب الجودار السود، ومزيج من الزيتون الأسود، وسلطة مؤلفة من العدس الأسود، وطماطم سوداء بالخل البلسمي، ورز مطبوخ بعصارة سمك الحبار.
أما الحلوى، فكانت كعكة كبيرة مغطاة بالشوكولاته القاتمة على شكل شاهد قبر منقوش عليه: (آن 1986 ـ 2014). وحتى المشروبات كانت من العصائر السوداء.
قرأت آن على الضيوف نصاً طويلاً تتحدث فيه عن تجربتها طوال السنة المنصرمة، وحادثة انهيارها في المكتب بسبب ضغط العمل، وطلبات المديرين، وعملية الزائدة الدودية التي خضعت لها في المستشفى، ثم جلسات العلاج النفسي والعقلي، ورغبتها في توديعهم قبل «دفن» ذاتها السابقة، على أمل أن تولد فيما بعد بذات جديدة متصالحة مع القديمة. وكان الأصدقاء يستمعون إلى آن، وعلامات التأثر بادية على وجوههم، لأن أغلبهم لم يعرفوا المحنة التي مرّت بها. وفي نهاية السهرة، أو الجنازة، كتب كل منهم كلمة تعزية في الدفتر التذكاري الموجود قرب الباب.
كتب جيرار مديرها السابق: «تبقى لحظة الولادة غائبة عن الذاكرة، ولا أحد يتذكّر ولادته. لكن هناك من الأهل من يروونها له فيما بعد. وأنا متأثر لأنني أشارك في الولادة الثانية لزميلتي آن». أما عيسى، صديق طفولتها، فقد كان يشعر بالحرج من الوضع الذي وجد نفسه فيه وكتب: «اليوم لن أدفن أحداً. لا رماد ولا قبر. خذي وقتك يا آن، لكي تعاودي العيش بالوتيرة المناسبة لك.. بهدوء وبطء». ويبدو أن هذه كانت النصيحة الأنسب لها.
«حفلة انبعاث»
كانت تتصور أن تلك السهرة ستهزّها بعمق، وتقلق مشاعرها، لكن ما حدث هو أنها خرجت من جنازتها المفترضة أقوى من قبل، وأكثر إصراراً على تبني هويتها الجديدة. تقول إنها أنجزت حدادها على نفسها، وباتت أكثر توازناً. وحتى في المكتب فإن العلاقات تحسنت مع الإدارة. وبعد شهر من ذلك الحفل حصلت على ترقية أشعرتها بأن هناك من يرحب بذاتها الجديدة، ويقدّر مجهودها، وبأن إخلاصها لواجباتها لا يذهب عبثاً. كانت لحظة سعيدة من العمر، خصوصاً أنها تعرّفت في تلك الفترة إلى الرجل الذي سيصبح شريك حياتها، ووالد طفلتها البالغة من العمر 4 أعوام.
في 16 مارس 2016، وبمناسبة بلوغها الثلاثين، أرسلت آن لأصدقائها دعوة جديدة بعنوان «حفلة انبعاث». هذه المرة طلبت من المدعوات والمدعوين ارتداء الثياب الوردية والألوان البهيجة. وجرى الحفل في المنزل الكبير لوالديها، وكان الصالون المفتوح مملوءاً بالقلوب البيض والحمر. وفي وعيها باتت تشعر بأن ذاتها الجديدة آن، تمثل الهدوء، والحكمة، اللون الأبيض، وأن كارين ذاتها السابقة تمثل الشعلة واللون الأحمر. ومع امتزاج اللونين يولد اللون الوردي أو الزهري الذي هو لون الطفولة، أي الميلاد، تضحك صاحبة الميلاد وهي ترى العدد الكبير للحاضرين وتقول: «إنهم أكثر ممن حضروا جنازتي».