ورغم أن اسمها مشتق من القهر، فإن القاهرة موطن بهجتي كلما حللت فيها. عاصمة عربية شاسعة مزدحمة بملايين من أبنائها، ومن ضيوفهم. والضيف قد يكون سائحاً عابراً، أو زائراً شغوفاً يطيل الزيارة، أو مهاجراً ولاجئاً من بلاد تتحارب، وتطرد مواطنيها.
طرتُ إلى القاهرة لحضور معرضها السنوي للكتاب. وأنا أحب الشارقة، ومعرض الشارقة، ويدهشني تنظيمه وحسن إدارته، لكن القاهرة لا تقارن بغيرها. وإذا كنت في معارض الكتب العربية تلتقي بعشرة أصدقاء، فإنك هنا تلتقي بمئة. منهم الشاعر، ومنهم الروائي، ومنهم الصحفي، ومنهم دودة الكتب، ومنهم من جاء للسوق من باب «مالي شغل… مرّيت أشوفك».
وقاعات المعرض بعيدة عن مركز المدينة. لكن يكفي أن ترى آلاف السيارات المتوقفة في الساحات والتخوم المقابلة، لكي تدرك أيّ مهرجان ينتظرك، وكذلك العشرات من حافلات النقل العام التي تأتي بالزوار من مختلف مناطق العاصمة.
تحتاج في هذا المعرض إلى أمرين أساسيين: الأول، حقيبة ذات عجلات تضع فيها الكتب الكثيرة التي ستقتنيها، أو تُهدى إليك، وثانيهما ساقان قويتان قادرتان على السير ساعات متواصلة، بين القاعات والممرات، وبسطات أجنحة دور النشر، وفي الساحة الخارجية، حيث أكشاك الطعمية والكشري.
تتفرج على الرفوف، ويذهب بصرك في كل اتجاه، ويتشتت عقلك من تعدّد العناوين، وسحر الأغلفة. وأنا التي أعشق دكاكين الفاكهة، وأتمتع بألوان التين، والعنب، والرمان، أجد نفسي هنا في دكان باذخ المذاقات، والإغراءات. ورغم سعادتي تنتابني غيمة شجن: ليت في العمر متسعاً لمطالعة كل ما أشتهي من كتب!
في القاهرة يتحقق حلمي بلقاء أصدقاء الـ«فيسبوك». فمن كان مثلي مقيماً في بلد أجنبي بعيد، لن يجد فرصة لعقد صداقات وجاهية، أي وجهاً لوجه، مع زملاء من الذين تربطك وإيّاهم هواية الحرف والأدب. لكنني غنية بأصدقاء ألتقي بهم على الشاشة في مواقع التواصل. وأقول غنية لأن كثيراً من هؤلاء ثروة، وعزوة. نتبادل المنشورات، والآراء، والمقالات، والصور، ونبعث علامات الإعجاب، أو الحزن، أو الاستنكار، أو التعجب، لبعضنا بعضاً، يوماً بعد يوم. وهناك من أرتبط معه بصداقة افتراضية منذ سنين طوال. ولكم أن تتخيلوا حجم سروري حين أراه أمامي، وأعانقهم في أروقة معرض القاهرة.
التقيت بالمترجم الأديب حسام فخر المقيم في نيويورك، وبالروائي طارق الطيب المقيم في فيينا، وبالصحفي توماس جورجسيان مراسل «الأهرام» في واشنطن، وبالكاتبتين العمانيتين هدى حمد، وبشرى خلفان، وبالناقد ومؤرخ الثقافة المصري شعبان يوسف الذي أطارده بتعليقاتي الفكاهية على منشوراته، وبالأديبة وأستاذة الأدب مي تلمساني المقيمة في كندا، وبالروائي الفلسطيني ربعي المدهون، وباللبنانية لنا عبد الرحمن، والمصرية زينب عفيفي، والداينمو مصطفى الطيب، وإيفلين عشم الله، والناشر شريف بكر، وشقيقته رانية. وشريف هو الذي يشاركني متعتي بأغنيات شكوكو، ويستقبلني بموسيقى «حبيبي شغل كايرو». كما تعرفت إلى الكاتب الشاب محمد جدي حسن الذي ينشر رواياته باسم روزي جدي، أول روائي ألتقي به من تشاد.
أعود من القاهرة بنصف طن من الكتب، وعشرة أطنان من المحبة. زوادة تكفي لتدفئني سنة في صقيع باريس الذي تعزّ فيه وتندر الصداقات.