
في عصر تهيمن عليه المنصات الرقمية، بات النجاح لدى البعض مقترناً بعدد المشاهدات والمتابعين، أكثر من كونه مرتبطاً بالشهادات الأكاديمية، أو الإنجازات المهنية، ومع ظهور مؤثرين تمكنوا من تحقيق ثروات وشهرة سريعة، بات الشباب مقتنعين بأن صناعة المحتوى هي الطريق المختصر لتحقيق الثراء والنجاح، من دون الحاجة إلى سنوات من الدراسة، والعمل الوظيفي.

لم تستوعب فاطمة سالم أن يتخلى ابنها، الذي كان يحلم أن يصبح محامياً، ويساعد الآخرين، عن حلمه بعد سنوات طويلة من الدراسة، ليطارد سراب الشهرة والنجاح على مواقع التواصل الاجتماعي، على حد قولها.
كان محمد البالغ من العمر 22 عاماً، متفوقاً في دراسته منذ الصغر، وكان حلمه أن ينهي دراسته، تماماً كما كانت تتمنى والدته التي رأت فيه أملاً وفخراً للعائلة. بعد التحاقه بالجامعة، وبدأ رحلته الأكاديمية التي لم تدم طويلاً، فجأة، بدأ يقضي محمد ساعات طويلة على هاتفه، يتابع المشاهير والمؤثرين على مواقع التواصل، مبهوراً بالحياة التي يعرضونها، مقتنعاً أن بإمكانه تحقيق النجاح نفسه، ولكن بسرعة أكبر، من دون الحاجة إلى سنوات من الدراسة الطويلة.
تروي والدته «كنت أتابعه وهو يغرق في العالم الافتراضي، يتحدث عن أعداد المتابعين، أكثر مما يتحدث عن دراسته، كان يعتقد أن الشهرة ستفتح له كل الأبواب، وستجلب له المال والنجاح، من دون جهد أو تعب، حاولنا إقناعه بأن الطريق ليس بهذه السهولة، وأن ما يبدو لنا على الشاشات ليس بالضرورة حقيقة، لكنه كان مصرّاً على قراره، ليتخذ القرار في عامه الثالث من الدراسة ترك الجامعة، معللاً السبب بقوله «لا أريد أن أضيع سنوات أخرى في دراسة قد لا تحقق لي ما أطمح إليه من شهرة، ودخل مالي مرتفع».

لم يكن أحمد سعيد «اسم مستعار»، ذو الـ30 عاماً، يتخيل أن قراره ترك وظيفته المستقرة في إحدى الشركات المرموقة ليصبح صانع محتوى على
وتشير الدكتورة إسعاف حمد، الأستاذ المساعد في قسم علم الاجتماع - جامعة خورفكان «لا ريب في أن النجاحات السريعة للمؤثرين قد تركت أثراً كبيراً في اتجاهات الشباب، في نظرتهم إلى العمل في المهن التقليدية، فالمؤثرون بات عددهم يتجاوز عشرات الملايين، وبعض الدراسات تقدّر عددهم بنحو 200 مليون، وهذا السوق أي «سوق صناعة المحتوى»، شهد بناء على ذلك، تنامياً كبيراً، ومطّرداً، وهناك من يقدّر أن القيمة السوقية لصناعة المحتوى بلغت نحو 20 ملياراً، ومن المتوقع وصولها إلى نحو 500 مليار خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، ومكمن هذا التأثير يعود إلى ما يحققه هذا النمط المستجد من قدرة على التأثير في المتابعين، عبر السلطة التي توفرها الشهرة، فضلاً عن الربح السريع، والاستقلال المادي، إضافة إلى ما يتيحه من مرونة في ساعات العمل نتيجة التخوف من أعباء المهن التقليدية، والتزامها من حيث الدوام لساعات طويلة في مكان محدّد، وصعوبات الانتقال، وغيرها من الضغوط».

تكشف د. إسعاف أن «نجاحات المؤثرين حقيقية، وواقعية، والمقياس هو عدد المتابعين الذي يتنامى باطراد لكل مؤثر، والقيمة السوقية الكبيرة والمتنامية اقتصادياً، وهؤلاء المتابعون يرون في المؤثر قدوة، ونموذجاً، ويسعون إلى استنساخ تجربته، وتقليدها، وامتلاك أسباب نجاحها، فضلاً عمّا أشارت إليه دراسات عدّة، من أن نسبة كبيرة من المتابعين يطمحون إلى العمل كمؤثرين، وقسم منهم مستعد لترك عمله التقليدي والالتحاق بمهنة صناعة المحتوى...
هذه العوامل دفعت ببعض الجامعات إلى افتتاح تخصصات أكاديمية في صناعة المحتوى، توفر معرفة عميقة بمتطلباته، وتدريبات عملية على إنتاجه. كما لابد من التنويه بأن بعض المؤثرين يسهمون بشكل إيجابي في تغيير المفاهيم والسلوكات، من خلال المحتوى الجاد الذي يقدّمونه، سواء كان صحياً، أو اجتماعياً، أو حتى فكرياً، بخاصة إذا ما كانوا مؤهّلين أكاديمياً في مجال المحتوى الذي يقدّمونه، حيث بتنا نجد أطباء، ومهندسين، ومفكّرين واقتصاديين، وحِرفيين، يقدمون هذا النوع الجاد من المحتوى. وفي المقابل، نرى بعض المؤثرين يسهمون في انحطاط الذوق العام، والتأثير في القيم سلباً، من خلال المحتوى السطحي والتافه الذي يقدمونه في هذا النمط الجديد من العمل، نظراً إلى المغريات الكبيرة التي ترافقه».
وتوضح د. إسعاف مخاطر وسلبيات هذا النوع من العمل «إضافة إلى تأثيره سلباً في القيم والعلاقات الاجتماعية والأسرية، واتخاذ قدوات سيئة، إلا أنه أيضاً قد يشمل مخاطرة الترويج لسلع ضارّة، أو لسلوكات سيئة، ومؤذية، أو يمكن أن يقع ضحية في محظور الترويج المضلل المقصود لسلع من نوعية رديئة، بخاصة من قبل أولئك المؤثرين الذين ينخرطون في صفقات تسويقية تجارية».
من جانبه، يوضح إبراهيم عبيد آل علي، الخبير الاجتماعي وعضو جمعية الاجتماعيين «لم يعد النجاح لدى بعض الشباب اليوم مرتبطاً بالاجتهاد الأكاديمي، أو تحقيق إنجازات مهنية من خلال الدراسة، والعمل المتدرج، بل أصبح مقروناً بالشهرة السريعة على مواقع التواصل الاجتماعي، والكثير منهم صار يرى في عالم الإنترنت منصة أكثر سهولة لتحقيق الثروة والنجاح، مقارنة بالطريق التقليدي الذي يبدأ بالدراسة الجامعية، ثم التدرّج الوظيفي حتى الوصول إلى القمّة...
وهذه الظاهرة أصبحت واضحة لدرجة أن بعض العائلات لم تعد تضغط على أبنائها لمواصلة التعليم العالي، بل بدأت تنظر إلى «الشهرة الرقمية» كخيار مشروع، يمكن أن يكون بديلاً عن المسار التعليمي التقليدي، لذلك لم يعد من الغريب أن نسمع قصصاً عن شباب تركوا الجامعات، أو يؤجلون دراستهم، لأنهم مؤمنون بفكرة قدرتهم على تحقيق النجاح المالي والاجتماعي، من خلال محتوى رقمي سريع الانتشار».

ويوضح الخبير الاجتماعي «التغيّر في مفهوم النجاح لم يأتِ من فراغ، فوسائل التواصل الاجتماعي صنعت جيلاً جديداً من المؤثرين الذين تمكنوا من تحقيق ثروات كبيرة، في وقت قياسي، مستفيدين من انتشار محتواهم، مع وجود هذه الأمثلة التي تمكنت من جني الملايين عبر منصات مثل «تيك توك»، و«إنستغرام»، و«يوتيوب»، وباتت فكرة أن الدراسة والعمل التقليدي ليسا الطريق الوحيد لتحقيق الثروة الأكثر إغراء للشباب. لكن في المقابل، من المهم الالتفات إلى أن النجاح السريع ليس بالضرورة مستداماً، فكما يظهر بعض المؤثرين بسرعة، فإنهم يمكن أن يختفوا بالسرعة نفسها، وهنا يجب على الشباب أن يكونوا واعين لمسألة مدى استقرار هذا النمط من النجاح، ومدى قدرته على بناء مستقبل مهني طويل الأمد».
ويوضح آل علي الدور الذي تلعبه العائلة في مسألة سلوك الأبناء لهذه الطرق من النجاح «لا يمكن إنكار الدور الأساسي للعائلة في توجيه أبنائها، لكن مع تغيّر العصر، أصبحت بعض الأسر أكثر تقبلاً لفكرة الابتعاد عن المسار التقليدي للنجاح، ففي السابق، كان ينظر إلى الشهادة الجامعية على أنها مفتاح المستقبل، أما اليوم، فالكثير من الآباء أنفسهم باتوا يتأثرون بقصص النجاح السريعة على وسائل التواصل، ما جعلهم أكثر انفتاحاً على خيارات جديدة. لكن التحدّي الحقيقي يكمن في تحقيق توازن بين الاستفادة من الفرص الرقمية المتاحة، والحفاظ على أهمية التعليم والتطوير الذاتي، فالعالم يتغيّر، لكن يبقى السؤال: هل يمكن للشهرة الرقمية أن تكون بديلاً حقيقياً عن النجاح الأكاديمي، أم أنها مجرد فقاعة قد تنفجر في أيّ لحظة؟».