04 مارس 2025

أطباق رمضان.. تقليد اجتماعي يجدد دفء العلاقات بين الأهل والجيران

محررة في مجلة كل الأسرة

مجلة كل الأسرة

يبقى تقليد تبادل الأطباق الرمضانية في الإمارات رمزاً للتكافل والتآخي بين الجيران، فعلى الرغم من التغيّرات التي طرأت على طبيعة الحياة، ما زالت هذه العادة التي تعود إلى زمن «الفرجان» القديمة، تحمل في طيّاتها روح المحبة والتواصل، حيث يحرص الأهالي على مشاركة أطباقهم مع محيطهم، سواء كانوا جيراناً أو محتاجين، في صورة تعكس القيم الأصيلة للمجتمع.

مجلة كل الأسرة

تقليد اجتماعي متوارث للمحبة والتواصل

من خلال تحقيقنا هذا نطلّ على أهمية أطباق رمضان، ودورها في تعزيز روح التكافل، وتوطيد العلاقات الاجتماعية، وكيف تطوّرت هذه العادة لتواكب متغيّرات العصر.

إذ لطالما كانت عادة تبادل الأطباق قبل الإفطار في رمضان تقليداً اجتماعياً يحمل عبق الماضي، ويعكس قيم الكرم والتآزر التي تميّز الشهر الفضيل، ومن أبرز سِمات هذه العادة أطباق رمضان الإماراتية التي تعكس التقاليد والموروثات التي توارثها الأبناء عن الآباء، تقول زينب الحارثي «على الرغم من التنوّع الثقافي الذي يشهده مجتمع الإمارات إلا أنه لا يزال محافظاً على عادة تبادل الطبق الرمضاني الذي يقوّي روابط المحبة بين الجيران، إذ مع اقتراب موعد الإفطار في كل يوم من الشهر الفضيل، يعود مشهد تبادل الأطباق بين الجيران والأهل في الإمارات، ليجسد أروع معاني التكافل والمحبة، ويعيد إلى الأذهان تلك العادات التي رسّخها الزمن»، تضيف «في طفولتي، كنت أشارك في حمل الأطباق إلى بيوت الأقارب والجيران، وأعود محمّلة بأطباق أخرى، كل منها يحمل بصمة المنزل الذي جاء منه، فالأمر لا يتوقف عند مجرّد تبادل طعام، بل كان تبادلاً للمحبة والتواصل».

وتتوقف عند مسألة تأثر المائدة الإماراتية بالتنوع الثقافي الذي يشهده المجتمع «على الرغم من دخول أكلات جديدة على المائدة الرمضانية، مثل السمبوسة والبكورة، لا تزال العائلات الإماراتية تحافظ على جوهر أطباقها التراثية في قائمة السفرة الرمضانية، وبالنسبة لي، يبقى الهريس هو الطبق الذي لا يمكن الاستغناء عنه في رمضان منذ صِغري، ليس لطعمه فقط، بل لأنه جزء من ذكريات طفولتي، وبالرغم من اختلاف نكهاته ووصفاته، يبقى الطبق الرمضاني الذي لا يُستغنى عنه، والذي يحمل معه روح الشهر الكريم، بجميع تفاصيله الجميلة».

وتشير الحارثي «في رمضان، لا تقتصر عادات الكرم على تبادل الأطباق بين الجيران الذين نحرص على أن يصلهم طعام الإفطار ساخناً، مغلفاً بعناية، بل تمتد لتشمل كل من يحتاج إلى وجبة إفطار، لذلك نحرص دائماً على ألّا يُهدر الطعام برميه، بل أنْ يصل إلى من يستحقه، فهناك عمال، وعابرو سبيل لا يمكنهم الوصول إلى منازلهم قبل وقت الإفطار، لذلك يكون سبيلهم الوحيد التوقف عند المساجد لتناول الإفطار من الوجبات التي نضعها هناك».

مجلة كل الأسرة

مع دخول وقت الإفطار، وبعد جهد عمل يوم طويل، يتوافد سكان البناية على محمد حسين ميركانش، الذي يعمل بصفة «حارس»، ليشعر بدفء العائلة رغم بعده عن وطنه، ويجد سفرته امتلأت بين طبق البرياني، والشوربة، والتمر، أو الحلويات التي تغنيه عن إعداد طعام الإفطار، يقول «منذ سبعة أعوام قدمت للإمارات، لم أكن أتوقع أن أشعر بجمالية هذا الشهر بهذه الطريقة، وأجد كل هذا الكرم الذي يعوّضني عن التعب والجهد الذي أبذله خلال ساعات العمل في النهار». ويكشف ميركانش «تتطلب وظيفتي أن أبقى ملازماً مكاني طوال ساعات النهار، وما إن يأتي وقت الإفطار حتى أجد نفسي منهكاً لا أفكر إلا في الراحة، والوجبات التي تصلني كل يوم تعينني على مشقة العمل والجهد الذي يتطلبه إعداد الإفطار، فأشعر كأنني وسط أسرتي وأهلي، فهم لا ينسوني أبداً».

عمل صغير بأثر عميق

من جانبها، تتحدث عائشة الزعابي، التي تحرص على استمرار هذه العادة «تبادل الأطباق يحمل معاني أعمق من مجرّد تقديم الطعام، عندما أرسل طبقاً إلى جيراني، أشعر كأنني أشاركهم جزءاً من نفسي، وهذا ما يجعلنا نشعر بأن كل شخص منّا جزء من حياة بعضنا بعضاً»، تكمل «في بعض الأحيان، إذا لم أرسل الطعام في يوم الأيام، يفتقدني الجيران، ويتصلوا ليطمئنوا، ويذكّروني بأني لست وحدي، وأنهم يشعرون ويهتمون بي، فالتأثير الروحاني لهذه العادة لا يتوقف عند الشهر الفضيل، بل يبقى مستمراً على مدار العام، ليس من باب المجاملة، بل بدافع الفطرة، وعندما أقدم طبقاً لجار لا أتوقع أن يعيد إليّ شيئاً منه، المهم بالنسبة لي هو أن يشعر بالاهتمام».

وتكشف الزعابي«قبل موعد الإفطار، أقوم بإعداد الطعام واللقيمات، بشكل شبه يومي، وتوزيعه على الجيران، وفي حال كان هناك متبقٍ، أو فائض من الطعام، أضعه في الثلاجة المخصصة للطعام التي وضعناها لهذا الغرض عند باب المنزل، وإذا كان الطعام ساخناً نضعه بجانب الثلاجة ليتناوله أي شخص يحتاج إليه، أما إذا كان بارداً فنضعه في الثلاجة لحين وصول من هو بحاجة إليه. هذه العادات وإن بدت صغيرة في ظاهرها، إلا أن أثرها عميق، فهي تُسهم في كسر الحواجز، وتعزيز روح الأخوّة، وتجعل من رمضان مناسبة تتجلى فيها القيم الإنسانية بأبهى صورها، فالعطاء ليس في المال، أو الطعام فقط، بل هو أيضاً في الكلمة الطيبة، والمبادرة، نحن لا نعطي لأننا نتوقع شيئاً في المقابل، بل لأننا نريد أن نرى الآخرين سعداء، وفي النهاية لا شيء يعادل شعور العطاء والمشاركة، وهذه هي الروح التي تميّز المجتمع الإماراتي».

مجلة كل الأسرة

روح التعاون والألفة

حتى اللحظات الأخيرة من وقت الإفطار، يواصل عبد المؤمن محمد سليمان، صاحب بقالة، عمله في تجهيز الزبائن الصائمين بطلباتهم، ومع انشغاله بالعمل ينسى أفطاره، لكن زبائنه الذين اعتادوا شراء احتياجاتهم منه يومياً، لن ينسوه، فيبدأ البعض بإحضار أطباق مختلفة، يبيّن «الناس هنا طيبون، لا يتركوني أفطر وحيداً، كل يوم تصلني وجبات مختلفة، فهم أصبحوا بمثابة عائلتي الثانية، أنا أساعدهم، وهم يردّون لي الجميل، حتى أشعر في بعض الأوقات بأنني تذوّقت طعام كل بيت في البناية»، ويواصل «البقالة لا تتوقف في رمضان، الناس تعتمد علينا، وأنا لا أستطيع أن أغلق المحل، فهناك من ينسى شيئاً مهماً وآخرون يحتاجون إلى الماء، أو الخبز، بينما هناك من يحتاج إلى شيء ضروري لإفطاره».

فرصة للتقارب الاجتماعي

تبادل الأطباق تقليد قديم يعكس روح الكرم والتلاحم، هذه العادة الرمضانية التي انتقلت عبر الأجيال لم تفقد بريقها، على الرغم من تغيّر نمط الحياة، بل زادت تنوعاً وغنى، لتصبح أكثر من مجرد مشاركة للطعام، بل لغة تواصل تحمل في طيّاتها الكثير من المشاعر الإيجابية. وبالنسبة إلى أمنية طارق العبد الله، أن مشاركة أطباق رمضان هي وسيلة للتواصل وإحياء روح المشاركة، وتبيّن «في رمضان، نحرص جميعنا في البناية، حيث أعيش مع أسرتي، على تبادل الأطباق ليس بدافع الكرم فقط، لكن لأننا نشعر بأن ذلك سيخلق أجواء دافئة بين السكان».

وتشرح «نلتزم في رمضان بإعداد الأطباق التقليدية، كالمنسف والمسخّن، التي لا تزال تحافظ على مكانتها على قائمة الأطباق الرمضانية الأردنية، وهي أول ما نفكر في مشاركته مع الجيران، لكونها تعكس هويتنا وموروثنا الشعبي، ولا يمكن أن أنكر وجود بعض الأطباق الأخرى التي بدأت تفرض حضورها. فاليوم لم يعُد تبادل الأطباق يقتصر على الأطباق التقليدية، إنما أصبح هناك مزيج من الأطباق التي تعكس المزيج الثقافي الذي يتميّز به مجتمع دولة الإمارات، وجوّ البناية التي أعيش فيها يشبه، إلى حدّ كبير حياة، الأحياء القديمة، عندما تتبادل الجارات الأطباق، عند كل إفطار».

نتيجة تبادل الأطباق يتحوّل شهر رمضان إلى أكثر من مجرّد شهر للصيام، ليصبح فرصة للتقارب الاجتماعي، وتوضح أمنية «لا تتوقف الأطباق التي تنتقل من منزل لآخر عند مجرّد كونها طعاماً، لتكون رسائل محبة وتقدير، وإحياء لقيم التكافل والتراحم. وإعداد وجبة زائدة لعامل البناية، أو طبق للجيران، وسيلة لنشر الحب، وإحياء للعلاقات التي ألغتها انشغالات الحياة، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي».

مجلة كل الأسرة

عطاء وتكافل بأساليب حديثة

من جانبها، تقول فاطمة الحواي، رئيس اللجنة الثقافية في جمعية الاتحاد النسائية بالشارقة «رمضان شهر الخير، مع عودته تعود العادات الجميلة التي ترسّخ روح التآلف بين الناس، والتي من أبرزها تبادل الأطباق بين الجيران، هذه العادة التي كانت سائدة في «الفرجان» القديمة ما زالت مستمرة عند بعض العائلات، رغم تغيّر أسلوب الحياة، ودخول الأبراج التي قلّلت من التواصل بين الجيران، ففي الماضي كانت الحياة مختلفة، و«الفرجان» كانت أشبه بالعائلة الواحدة، الكل يعرف بعضه بعضاً، والقلوب مفتوحة قبل البيوت، (زمان ما كان حد يفطر بروحه)، كل بيت يرسل إلى جيرانه من القدر الذي يطبخه، كان الأطفال يتنقلون حاملين الطعام في الأطباق المغطاة بقطعة قماش، أو جريدة، ويعودون بغيره. تبادل الأطباق لا يتوقف عند كونه مجرّد عادة، إنما هو تجسيد لقيم إسلامية واجتماعية متأصّلة في المجتمع الإماراتي، فعندما ترسل طبقاً إلى جارك فأنت تقول له (نحن قريبون منك، نحسّ فيك، ومكانك في القلب قبل البيت). لم يكن هناك من يشعر بالجوع، كل بيت يرسل إلى جاره، لكن مع مرور الوقت، واتساع المدن، ودخول المباني الحديثة، أصبح التواصل أقلّ، وكل عائلة مشغولة بحياتها».

وتشير  الحواي «على الرغم من كل التغيّرات التي طرأت على المجتمع، إلا أن روح العطاء والتكافل التي كانت وراء هذه العادة لم تندثر، إنما ظهرت بأساليب حديثة تتناسب مع نمط الحياة الجديد، فمبادرات توزيع وجبات الإفطار على المحتاجين ما هي إلا امتداد لهذه العادة، حيث لا يكتفي الناس بإرسال الطعام في رمضان إلى جيرانهم، بل يمتد إلى الأسر المتعففة، والعمال الذين هم بحاجة إلى الدعم.. رمضان شهر الكرم والعطاء، ولا يوجد أجمل من أن يشارك الشخص النعمة التي لديه مع غيره».