
يطلَ شهر رمضان لتجدَد معه تجمَعات الأهل، والأصدقاء، والجيران، وتتحوَل البيوت والمجالس إلى ساحات تفيض بالألفة والمحبة، تمتزج فيها رائحة الأطباق التقليدية بعبق الذكريات، لتصبح لقاءات الإفطار والسهرات الممتدة حتى السحور فرصة لتعزيز الروابط، واسترجاع الحكايات المنسية.

أقيم أولاً لقاءات لأقارب والدتي، ثم للعائلة من جانب والدي
تقول الدكتورة سعاد لطفي «تُعد التجمعات العائلية من أبرز تقاليد شهر رمضان الكريم، حيث تجتمع العائلات والأصدقاء في أجواء روحانية دافئة، تعكس قيم التلاحم والتواصل»، مشيرة إلى أنها، كعادتها في كل رمضان، تحرص على تنظيم عدة لقاءات تجمع أفراد العائلة والأصدقاء «عادة ما يشهد بداية شهر رمضان هدوءاً، حيث يفضّل الكثيرون قضاء الأيام الأولى مع الأسرة الصغيرة. ومع تقدم أيام الشهر الفضيل، تبدأ التجمعات العائلية الكبرى، فأقيم أولاً لقاءات لأقارب والدتي، ثم للعائلة من جانب والدي، وأخيراً تجمعاً كبيراً للأصدقاء والجيران». مؤكدة أن «هذه العادة تنتشر بين الكثير من العائلات، حيث يبدأ الناس بترتيب اللقاءات بعد الأيام الأولى من رمضان، وتستمر حتى العشر الأواخر، حيث يقل عدد الدعوات بسبب التركيز على العبادات».
تعتبر هذه التجمعات جزءاً أساسياً من الروتين للكثير من الأسر الإماراتية التي تحرص على الاجتماع بشكل يومي، سواء على مائدة الإفطار، أو خلال أوقات السحور، توضح د. سعاد «نجتمع كأسرة في المنزل لتناول طعام الإفطار معاً، ومن بعد صلاة التراويح تنتقل السهرة التي تمتد إلى وقت السحور، في بيت الوالدين، في أجواء يستمتع بها الكبار والأطفال».

تتميّز التجمعات الرمضانية بطابع خاص، حيث لا تقتصر على لقاءات الإفطار والسحور، بل تمتد لتكون مناسبة للاحتفاء بالأناقة، والذوق الرفيع، وتؤكد الدكتورة سعاد لطفي «اختيار الملابس في هذه المناسبات يعد جزءاً أساسياً من التحضيرات، ونحرص كنساء، على ارتداء أجمل الجلابيات المطرّزة، مع الذهب والألماس التي تضيف لمسة من الفخامة على الأجواء الرمضانية». أما عن الأماكن التي تفضلها للتجمع، فتكشف «على الرغم من انتشار ثقافة تناول الإفطار أو السحور في المطاعم والفنادق، إلا أننا نفضل إقامة الجمعات في المنزل، أو الحديقة، لما يوفره من راحة وخصوصية بعيداً عن زحام الأماكن العامة».
وتصف د. سعاد لطفي شهر رمضان بأنه علاوة على كونه وقتاً للصيام والعبادة، فإنه أيضاً فرصة حقيقية لتجديد العلاقات، مشيرة إلى أنه يحمل الكثير من ذكريات الطفولة والأيام الجميلة، حيث ينتظره الجميع بشوق «رمضان شهر يجمع القلوب، إذ يصبح لقاء الأحبة والأقارب أمراً أكثر حضوراً، حتى الذين لم يلتقوا منذ سنوات يجدون في هذا الشهر فرصة للتواصل، والتسامح».

جولات منظمة في منازل الفريج
من جانبه، يحرص صانع المحتوى مروان الشحي، على حضور تجمعات «فريجه»، الحي الذي يسكن فيه، في منطقة الرحمانية، بعجمان، ويبيّن «تجمعاتنا ليست مجرّد عادة، بل هي تقليد اجتماعي متوارث يجمع الأهل والجيران في أجواء مميّزة تعكس روح الشهر الكريم، واستعدادنا لرمضان يبدأ مبكراً، من خلال تجهيز المستلزمات الغذائية، والأواني التقليدية التي تستخدم في تحضير الأطباق الرمضانية المميّزة، مع الحرص على الحفاظ على العادات والتقاليد التي توارثناها عبر الأجيال».ويؤكد الشحي أن تجمعات الفريج في رمضان تحمل طابعاً فريداً «يشترك الكبار، والصغار، والشباب، في إحياء هذا التقليد الاجتماعي العريق. من بعد صلاة التراويح، يبدأ الجميع بجولات منظمة على منازل الحي، ويتم تقسيم الزيارات بشكل يومي على ثلاثة، أو أربعة بيوت، يتم فيها تبادل الأحاديث والذكريات، ما يضمن مشاركة الجميع».

ويلفت الشحي إلى أن «الأجواء الرمضانية في الفريج هي امتداد لتقاليد عريقة تعزز روح الألفة بين الأهالي، وكما يجتمع الرجال بعد صلاة التراويح لزيارة منازل الجيران، تحافظ النساء أيضاً على عادة التجمع، والتزاور، في أجواء شعبية دافئة»، مشيراً إلى أن هذه العادة «لا تقتصر على تبادل الزيارات فحسب، بل تحمل أيضاً بعداً تربوياً، إذ يتعلم الأطفال أصول الضيافة، واستقبال الضيوف، وتعزز روح الألفة والتلاحم بين الجيران، كما يتم فيها سرد قصص وأحاديث فيها طابع مميّز يجمع بين الذكريات، والحوارات».

تجمعات قبل وبعد الإفطار
تحرص الفنانة فاطمة جاسم، على أن يكون الإفطار في رمضان مع العائلة، بشكل يومي، وتوضح «مع بداية الشهر الفضيل، أحرص على تخصيص الأسبوع الأول من رمضان للإفطار مع الأسرة، بشكل يومي، وزيارة الأعمام، والخالات، والأقارب، من مختلف إمارات الدولة، وأبادر بالسفر إليهم لتقديم التهاني وتوطيد العلاقات، التي غالباً ما تتم قبل الإفطار، أو بعده، حيث تلتقي العائلة في أجواء مريحة بعيداً عن صخب التحضيرات»، تكمل «مع تقدم الشهر، تبدأ العزائم بين الصديقات، حيث نتبادل الدعوات للإفطار والسحور، بينما يحرص البعض مع دخول النصف الثاني من رمضان على أداء العمرة، أو تكثيف العبادات استعداداً للعشر الأواخر».

وتشير فاطمة إلى أن «تجمعات رمضان لا تتم وفق جدول محدّد، بل تكون مرنة، وتتنوع بين العائلة والأصدقاء، فزيارات الأهل غالباً ما تكون غير مخطط لها مسبقاً، حيث التواصل العفوي، على الرغم من كثرة الاجتماعات. أما بالنسبة إلى اللقاءات مع الصديقات فنحاول أن يكون تنظيم التجمعات في أوقات معيّنة».تختم فاطمة حديثها حول تجمعات رمضان، بالقول إنها تفضل البقاء مع العائلة والأصدقاء المقرّبين على حساب هذه التجمعات، إذ يستهلك الشهر الفضيل منها الكثير من الجهد والوقت «أحب أن أكون مع أهلي وأصدقائي المقرّبين، فهناك أشخاص في حياتي أراهم بشكل يومي، وهم من أولوياتي، بينما لا أرغب كثيراً في تلبية الدعوات الاجتماعية التي تكون من قِبل أشخاص غير قريبين لي».

تجمعات رمضان فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعية والمهنية
يعتبر الإعلامي محمد عمران آل علي، شهر رمضان أكثر من مجرد فترة للصيام والعبادة، بل يراه فرصة لتعزيز العلاقات الاجتماعية والمهنية، حيث يحرص على المشاركة في تجمعات رمضانية تضم الأصدقاء، الإعلاميين، والمؤثرين، بالإضافة إلى المشاركة في الفعاليات التطوعية التي تعزز شعوره بالمسؤولية الاجتماعية، يكشف «نجتمع أحيانًا، بعد الإفطار، للمشاركة في أنشطة تطوعية، عندما أقرر الانضمام إلى فرصة خيرية، أخبر أصدقائي لينضم من يرغب بالمشاركة، المميز والجميل في هذه التجمعات أننا نلتقي ببعض الأصدقاء الذين لم تسنح لنا رؤيتهم منذ فترة طويلة، مما يضيف بُعداً إنسانيًا لتجمعاتنا». يضيف «أما على صعيد العمل، تشكل هذه المجالس فرصة ذهبية لجمع الإعلاميين والمؤثرين في لقاءات تثري خبراتنا، ومناقشة آخر التطورات في مجال الإعلام بسبب انشغالاتنا طوال العام».

لا تقتصر لقاءات آل علي، على الدور المجتمعي والعمل الإعلامي فقط، بل يحرص على حضور إفطارات جماعية مع أصدقائه تعزيزاً لروح الألفة وإدامة التواصل، يقول «التزم حضور عدد من موائد إفطار مع مجموعة من الأصدقاء المقربين على إلا يتجاوز عددها سبع دعوات، حيث يستضيف كل واحد منا الإفطار في يوم محدد في بيته، ويكون هو المسؤول عن كل شيء من التحضير إلى الترتيب».
مدارس تعليمية تنقل القيم عبر الأجيال
رغم التطورات التي طرأت على أنماط الحياة في الإمارات، لا يزال رمضان عنواناً للترابط الأسري والمجتمعي، بعاداته التي حافظت على رونقها، بدءاً من حركة الأطباق التي تجوب البيوت قبل أذان المغرب، لتمتد إلى ما بعد صلاة التراويح، حيث تتحول البيوت إلى أماكن تجمع للأهل والجيران.. وتكشف المدربة في السنع الإماراتي، مريم عبد الله الشحي «بعد التراويح، تبدأ الزيارات، وتستمر حتى وقت السحور، الرجال يجتمعون في المجالس، والنساء يلتقين لتحضير القهوة، وتبادل الأحاديث، لتتحول هذه الجلسات إلى مساحة للحوار، والحميمية، وتعزيز الروابط الاجتماعية». وتكمل «تغيّرت الحياة اليوم عن الماضي، فبينما كانت تتحمل المرأة مسؤولية إعداد كل شيء، أصبح هناك في الوقت الحاضر نوع من التنظيم والتعاون المشترك، بين أفراد الأسرة، ما خفف العبء عنها، وجعل الأجواء أكثر مرونة».
وتوضح الشحي أهمية مجالس رمضان للأطفال «رمضان فرصة لغرس القيم في الأجيال الجديدة، وهذه المجالس لا تتوقف عند كونها مجرّد أماكن للقاء وتبادل الأحاديث، بل مدارس تعليمية تنقل القيم عبر الأجيال، فحين تجلس الفتاة الصغيرة بجوار والدتها، أو جدّتها، فهي تتعلم من دون الحاجة إلى الشرح، وترى كيفية التعامل باحترام مع الأكبر سناً، كيفية تقديم الطعام، كيف تكون التحية، وكيف يتم التصرف في المجالس، فهذه الأمور لا تدرس، لكنها تكتسب بالملاحظة، والقدوة».
التقارب والتواصل.. الهدف الأساسي من التجمعات
تبيّن الباحثة الاجتماعية والمستشارة الأسرية عائشة الحويدي «تجمعات رمضان تعد جزءاً من عادة اجتماعية لا تقتصر على الشهر الفضيل، بل تمتد لتشمل مختلف المواسم، وطوال العام. هذه العادة الراسخة في ثقافة المجتمع الإماراتي تسهم في تعزيز روح المحبة والتلاحم بين الأفراد، من خلال اللقاءات المستمرة، وتبادل الزيارات». توضح الحويدي «تبادل الأطباق بين الأسر يمثل جزءاً من هذه التجمعات، حيث يكون التنوع في الطعام أمراً جميلاً، لكن الأهم هو الهدف الأساسي من اللقاءات، وهو التقارب والتواصل بين الأهل والأصدقاء».
وتكشف الحويدي الوجه الآخر لهذه التجمعات «يجب ألا يقتصر تجمع العائلة على روابط الدم، والدين، والمودة، بل يجب أن يترجم إلى دعم حقيقي بين أفراد الأسرة في الأوقات الصعبة. كما أن التكافل الأسري لا يقتصر على الدعم المالي فقط، بل يشمل أيضاً الدعم العاطفي والمعنوي».
مساحة للتفاعل في أجواء دافئة
يشير، الباحث في شؤون الأسرة الدكتور عبد الله الجنيبي «رغم التحولات الاجتماعية، تبقى تجمعات رمضان، رمزاً للمودة والتواصل وفرصة لا تعوض لتعزيز العلاقات الأسرية والاجتماعية، بعيداً عن شاشات الهواتف ووسائل التواصل الحديثة، يوضح " يمكن أن تكون مساحة حقيقية للحوار وتبادل الأحاديث العميقة والمشاركة في أنشطة اجتماعية مثل الفوازير الرمضانية، مما يعزز الإحساس بالترابط بالانتماء والتلاحم، بعيداً عن نمط الحياة المتسارع وخلق مساحة للتفاعل الحقيقي في أجواء دافئة، كما تلعب دوراً مهماً في غرس القيم والعادات لدى الأجيال الناشئة، حيث يتعلم الأطفال والشباب مبادئ التعاون والمشاركة من خلال المساهمة في تحضير الأطباق وتقديم الضيافة. بالإضافة إلى دورها في إحياء روح الجماعة بين أفراد الأسرة، حيث يتعاون الجميع في تنظيم السهرة الرمضانية، مما يعكس قيم الكرم والضيافة المتجذرة في المجتمع الإماراتي والخليجي»، في نفس الوقت يحذر، د.الجنيبي من «الإفراط في المبالغة بالإعداد لمثل هذه التجمعات، تجنباً للإسراف والتبذير، روح تجمعات شهر رمضان الحقيقية تكمن في الود والبساطة، وليس في التكلّف والمبالغة في إعداد الموائد، فالقيمة الحقيقية لها تتمثل في اللقاء والتواصل وتعزيز العلاقات».