تعبق أجواء مصر في العشر الأواخر من شهر رمضان المعظّم، كل عام، بروائح الكعك الذكية، حيث تعكف معظم الأسر المصرية على تجهيزه في طقس يضرب بجذوره في عمق التاريخ.
ويرجع كثير من الباحثين ارتباط الكعك المحلّى بالسكّر، بالعديد من المناسبات الدينية والسعيدة في مصر، إلى العصور الفرعونية السحيقة، حيث عرفت مصر صناعة الكعك المحلّى بالسكّر خلال العصرين، اليوناني والروماني، واستمرت خلال العصر البيزنطي، حتى وصلت إلى العصر الإسلامي، وشهدت رواجاً كبيراً في عهد الدولة الطولونية عام 904 ميلادية، قبل أن تنتقل صناعة الكعك إلى الدولة الإخشيدية، وتتحول إلى واحدة من أهم مظاهر الاحتفال بعيد الفطر.
ويشير العديد من الباحثين في التراث الشعبي إلى أن الكعك بصورته الحالية، يختلف كثيراً عن الكعك الذي كان يصنعه المصريون في العصور السحيقة، والذي يظهر على موائد المصريين في العديد من النقوش العتيقة. فقد صنع المصريون الكعك للاحتفال بالعديد من المناسبات، الدينية والاجتماعية، وكانوا يتهادونه فيما بينهم، على نحو ما يجري الآن بين الأسر صبيحة يوم العيد، ويقول علي حمدان، الباحث في التراث الشعبي، إن الكعك في مصر القديمة كان يأخذ أشكالاً وصلت إلى نحو مئة شكل، فمنه الكعك الذي كان يتم حشوه بالتمر، والآخر الذي يتم حشوه بعسل النحل، وهناك نوع كان تتم زخرفته بالفواكه المجففة، مثل التين، والنبق، والزبيب، أما الكعك الذي كان يقدم كقرابين للآلهة، فقد كان يتميّز بنقوشه التي تظهر قرص الشمس، رمزاً «لإله الشمس رع».
وقد حافظ المصريون على هذا التقليد حتى بعد دخول المسيحية إلى البلاد، فظلّت عادة صناعة الكعك قائمة في الأعياد المسيحية، مع تغيير النقوش التي ترسم على الكعكة، وهو ما ميز الكعك الذي كان يصنع أثناء حكم الفاطميين لمصر، وهي الفترة التي شهدت تطوراً كبيراً في صناعة الكعك، حتى أن حجم الكعكة الواحدة كان يصل إلى حجم رغيف الخبز، وقيل إن مائدة الخليفة العزيز الفاطمي كانت تحمل صبيحة يوم عيد الفطر ما يزيد على 60 صنفاً من الكعك، والغريبة، وقد بلغ حب الخليفة للكعك مبلغ أنه أمر بإنشاء أول دار عنيت بصناعته، وأطلق عليها «دار الفطرة»، وقد استمرت هذه الدار في العمل حتى نهايات عصر الدولة العباسية، فقد كان الكعك يصنع ويوزع في كثير من المناسبات الدينية، ولم يعد حكراً على عيد الفطر فقط.
تقدم العديد من النقوش الموجودة في مقابر طيبة ومنف، صورة شبه تفصيلية لطريقة صناعة الكعك في مصر القديمة، وكيف كان يخلط عسل النحل بالسمن، ويقلّب على النار ليضاف إلى الدقيق، ثم يقلب الخليط حتى يتحول إلى عجينة يسهل تشكيلها، ثم ترص على ألواح من «الإردواز» قبل أن توضع في الأفران للتسوية. ويبيّن خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان «كان هناك أنواع من الكعك في مصر القديمة تقلى بالسمن، أو الزيت، وقد ارتبط هذا النوع من الكعك بالعديد من الطقوس الجنائزية، مثل الفطير الذي كان يخصص لزيارة المقابر في الأعياد، والذي يطلق عليه حالياً «الشريك»، وقد كان المصريون القدماء يشكّلونه على شكل تميمة ست، وهي واحدة من التمائم السحرية التي كان المصريون القدماء يؤمنون بأنها تفتح للمتوفى أبواب الجنة، في المعتقد المصري القديم».
عرف المصريون الكعك بصورته الحالية في عهد الدولة الطولونية التي أسسها أحمد بن طولون، في عام 254 هـجرية، وقد كان يصنع حينذاك في قوالب خاصة مكتوب عليها «كل واشكر»، ولا يزال متحف الفن الإسلامي ب في القاهرة يحتفظ بالعديد من هذه القوالب، التي كتب عليها «كل هنيئاً واشكر»، و«كل واشكر مولاك». وقد تطور الأمر إلى تخصيص الفاطميين، فيما بعد، مبالغ مالية كبيرة لصناعة كعك العيد، الذي كانت المصانع تبدأ بصناعته منذ منتصف شهر رجب، وكان الخليفة الفاطمي يتولى توزيعه بنفسه على رعيته، وتخصيص 16 ألف دينار لإعداد ملابس لأفراد الشعب بالمجان، حيث ترصد العديد من الدراسات التاريخية كيف كان عامة الشعب يقفون أمام أبواب القصر الكبير للخليفة الفاطمي عندما يحل العيد، ليحصل كل فرد علي نصيبه من الكعك، والملابس، في تقليد سنوي أصبح حقاً من حقوق الفقراء.
اهتم المماليك بالكعك وتوزيعه على الفقراء، فأنشأوا سوقاً مخصصاً له أطلق عليه اسم «سوق الحلاويين» بالقاهرة، وقد أسهم أهل الشام الذين هاجروا إلى مصر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، في تطوير صناعته، فظهرت له أشكال جديدة، بعد استخدام الماكينات الحديثة لتحلّ محل المنقاش الشعبي الذي كانت النسوة تنقشن به الكعك في بيوتهن، قبل الذهاب لإلى تسويته في الأفران.
* تصوير: أحمد شاكر