عاش وحيداً ومنطوياً على نفسه وعمل حارساً في شيكاغو ولم يكن هناك من يعيره انتباهاً إلى أن مات، فانفتحت خزانة السر الذي كان يخفيه عن العالم وانكشفت أوراقه كاملة، لكنه ليس السر الذي سيتوقعه أحد من رجل عاش وحيداً بعد وفاة أمه، ولم يحظ بلقاء يتيم مع أخته ولا إخوته الذين تخلى عنهم أباه العاجز والمعاق بعد وفاة أمهم.
وظل الطفل «هنري دراجر» برعاية أبيه المعاق والعاجز إلى أن هده المرض وأضعفه فنقل إلى بيت المسنين التابع للكنيسة لكاثوليكية آنذاك، وأرسل هنري للعيش في منزل للأيتام. لكن هنري لم يطل البقاء في المركز لأنه تم نقله إلى مركز لينكولن للأمراض النفسية بعد تشخيص الأطباء بأنه كان يتعمد إصدار أصوات غريبة تؤذي وتزعج من حوله ما يعرضه للأذى من زملائه في المدرسة.
وعرف «هنري» بوفاة والده بعد بلوغه السادسة عشر، بينما لا يزال مقيماً في المركز فحاول الهرب مراراً، وفشلت جميع محاولاته إلى أن نجح في آخرها وقفل عائداً إلى شيكاغو سيراً على قدميه. وبمساعدة عرابته التحق بأعمال بسيطة وعمل لفترة قصيرة جداً في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى، وظل يزور الكنيسة يومياً ويحضر الصلاة فيها خمس مرات في اليوم ويجمع النفايات من الشوارع حتى تقاعده في عام 1963. وعلى الرغم من تواضع ملابسه وقدمها ظل يوليها اهتمامه ويحرص على نظافتها وعلى عدم تمزقها لأي سبب، وعلى الرغم من التصاقه الحميم بالوحدة، كان له صديق لا يفارقه واسمه شلدر، وكانا يتشاركان الأحلام والأفكار بأن يتمكنا من إنشاء مجتمع للأطفال الأيتام لحمايتهم من الأذى وترتيب وضعهم في عائلات تحبهم والبحث عن عائلات بديلة لمن فقدوا آبائهم ولم يحظوا بفرصة الاستمتاع بأجواء العائلة الحميمة، إلى أن غادر شلدر شيكاغو وظلا يتبادلان الرسائل إلى أن مات شلدر.
لم يكن السر الذي انفضح بعد موت هنري دراجر متوقعاً، فلا أحد يمكنه أن يصدق بأن رجلاً بسيطاً مثله، عاش في غرفة صغيرة في المنزل الذي توفي فيه والده في شيكاغو لمدة ثلاثة وأربعين عاماً، كان مشغولاً جداً، ليس فقط بكتابة مذكراته لمدة عشر سنوات وتدوين حالة الطقس بشكل يومي؛ بل كان منهمكاً بتأليف رواية بنات فيفيان وهي مخطوطة مكونة من خمسة عشر ألف ومئة وخمس وأربعون صفحة من الأدب الخيالي اللاواقعي، كتبها هنري دراجر ورسم على صفحاتها مئات الرسومات العجيبة بألوان مائية وبدقة فنان محترف.
وعلى الرغم من كل الغموض الذي اكتنف حياة هنري وحياته الصعبة ووحدته وفقره، يمكن القول إن هنري دراجر اليوم هو واحد من أشهر الروائيين والفنانين في العالم، وتلك الشقة الصغيرة التي مات فيها والده عاجزاً، ولحقه هو بعد ثلاثة وأربعين عاماً من الوحدة، قد تحولت إلى متحف، واستقبلتها أشهر وأوسع معارض الفنون في أمريكا، وتناثرت مجلداته العتيقة المغلفة بالماضي فوق الطاولات، لتجتذب إليها عشاق الفن والذين يدفعهم الفضول لقضاء بعض الوقت في مكان لم يعرف قيمة وجود هنري دراجر، في زمن أدرك عظمة مخيلته التي خلدت ذكراه إلى اليوم.