هل المال نعمة أم نقمة؟ والحب والشهرة والموهبة والشباب والوسامة والجمال.. هل هي من النعم أم نقمات تفسد عيشة أصحابها وتقصف أعمارهم؟ عادت حكاية مصرع رجل الأعمال الإيطالي «موريزيو جوتشي» إلى التداول بسبب الفيلم السينمائي الذي أخرجه عنه ريدلي سكوت. لكنها حكاية تستحق المراجعة في كل زمان ومكان لأنها الدرس الأمثل للانتقام الذي يعقب الغرام.
منذ أن ظهرت العلامة التجارية «جوتشي» في عالم الموضة والأزياء وكل الأنيقات يحرصن على اقتناء قطعة تحمل ذلك التوقيع. وإذا كانت باريس هي عاصمة الخياطة الراقية فإن ميلانو هي منبع التصميم واللمسة المترفة. وفي ميلانو جرى اغتيال موريزيو جوتشي، الوريث الوسيم والثري لدار الأزياء الإيطالية الشهيرة. كان في السادسة والأربعين من عمره، في عز رجولته ونفوذه المالي، لكن المال ليس هو الدافع دائماً، ولا المنافسة التجارية، بل قلب امرأة يشتعل بالغيرة.
موريزيو جوتشي مع باتريسيا ريجياني
كان اسم تلك المرأة باتريسيا ريجياني، وقد اختار المخرج نجمة الغناء ليدي جاجا لتقوم بدورها، وهي كما يتوقع الجميع قصة تأسر قلوب الجمهور لأنها تجمع ما بين الحب والمال والجنس والغيرة القاتلة. فهل برد قلب المرأة المهجورة وهي ترى حبيبها مقتولاً في شارع كورسو فينيزيا، أحد أرقى شوارع ميلانو، تحت شرفة مكتبه في ميلانو بثلاث رصاصات في الظهر ورابعة قاتلة في العنق؟ حتى حارس العمارة تلقى رصاصة في الذراع لكنه تحامل على نفسه وهبّ لنجدة سينيور جوتشي الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في حضنه.
ليدي جاجا في دور باتريسيا ريجياني
هل كانت تصفية حسابات بين تجار متنافسين أم جريمة من جرائم المافيا؟
قبل سنتين من الحادث، وتحت ضغط ورثة عائلة جوتشي الآخرين، باع موريزيو حصته من الشركة، وقدرها النصف، إلى شركة الاستثمار البحرينية «انفستكورب». حققت الصفقة مبلغاً يتراوح ما بين 150 مليون دولار و200 مليون دولار. ومع ذلك، فإن الخلافات بين الورثة وداخل مجلس إدارة العلامة التجارية المزدهرة لا تكفي لتبرير مثل هذا الاغتيال. هذا ما توصلت إليه تحقيقات الشرطة. فقد تحولت الشكوك بسرعة إلى باتريسيا ريجياني، الرفيقة السابقة للقتيل، التي توصف بأنها امرأة متفجرة مثل الديناميت.
نقلت الشرطة الإيطالية جثة القتيل وتفرغت لملاحقة المشتبه بهم. وتركزت جهودها على باتريسيا، المرأة التي لقبتها الصحافة الإيطالية بـ «الأرملة السوداء». لقد تعرفت الإيطالية الحسناء على موريزيو جوتشي في حفل من حفلات المجتمع الراقي في ميلانو، أوائل سبعينيات القرن الماضي. كان حباً انتهى بالزواج. وبعد زواجهما في عام 1972، أنجبا ابنتين، أليجرا وأليساندرا، وعاشت الأسرة حياة فخمة بين ميلانو ونيويورك، حيث كان الزوجان الشابان يختلطان مع أشباههم من الأثرياء من أفراد عشيرة كينيدي والملياردير أرسطو أوناسيس. لكن الصورة الجميلة بدأت بالتصدع في عام 1983، عندما تولى موريزيو مسؤولية «جوتشي» بعد وفاة والده. راح الوريث يركز كل طاقته على استعادة عظمة دار الأزياء الفاخرة، وكانت الدار تكافح لتجديد صورتها التي تراجعت بعض الشيء أمام سطوة دور الأزياء الباريسية.
موريزيو جوتشي
ظلت ترفض الطلاق وخافت أن تذهب ثروته لصديقته الجديدة
ذات صباح، سئم الوريث من محاولات التدخل والشخصية النرجسية لزوجته، فجمع قمصانه وبدلاته الأنيقة في حقيبة، كما يحدث في الأفلام، وترك بيت الزوجية. ومن كان مثله لا يمكن أن يعيش بدون امرأة، فقد التقى بمصممة شابة وأراد الاقتران بها. لكن زوجته ظلت ترفض الطلاق لقرابة عشر سنوات. إن الغيرة تنهش قلبها، والمصاريف السنوية التي تتلقاها من زوجها لا تسد رمقها رغم أنها تبلغ 1.5 مليون يورو.
وهي قد صرحت للصحافة، في تلك الفترة، بأن هذا المبلغ يعتبر تافهاً بالنسبة لامرأة من مستواها. كانت تخشى أن يتزوج موريزيو من صديقته فتخسر هي نصيبها من ثروته التي تقدر بأكثر من 400 مليون يورو، مع يخت ضخم والعديد من الشقق حول العالم. سيذهب كل ذلك العز إلى الزوجة الجديدة. وهكذا اكتملت في رأس «الأرملة السوداء» تفاصيل الحل المناسب لها. ستستأجر قاتلاً محترفاً للخلاص من الزوج الذي هجرها. وفي خضم جنونها، اعترفت فيما بعد بأنها كانت تسأل كل من تعرفه عن عنوان قاتل محترف، حتى لو كان جزاراً يجيد استخدام السكاكين. هذا ما روته في التحقيق لكنها نفت أنها نفذت ما كانت تفكر فيه.
مسرح الجريمة
عرافتها كانت الوسيط بينها وبين القاتل الذي نفذ الجريمة
تأخر التحقيق لمدة عامين تقريباً. وفي أوائل عام 1997 وضع أحد المخبرين المحققين يده على إيفانو سافيوني، وهو رجل من ميلانو يبلغ من العمر 40 عاماً، قال بأنه كان الوسيط بين باتريسيا ريجياني وبين قتلة قاتلي موريزيو جوتشي. وكانت باتريسيا تحرص على قراءة طالعها، وقد تعرفت إلى سافيوني من خلال عرافتها التي أصبحت صديقة مقربة منها. وكشفت العرافة في التحقيقات أن باتريسيا دفعت أكثر من 600 مليون ليرة (حوالي 300 ألف يورو) لإصدار أمر باغتيال زوجها السابق. وألقت الشرطة الإيطالية القبض على جميع المشتبه بهم.
بدأت جلسات المحاكمة التي تميزت بالشخصية القوية لباتريسيا ريجياني. قالت للقاضي إنها بريئة وإنها ضحية لضربة وجهها بقية الفريق المشتبه به. لكن دفاعها عن نفسها وإنكارها التهمة ظل بدون جدوى. فقد حكم عليها بالسجن لمدة 26 عاماً، كما نال شركاؤها أحكاماً ثقيلة. وفي عام 2011، عندما عرض القضاة عليها التناوب بين السجن والعمل ذي المنفعة الاجتماعية، رفضت العمل، وردت أمام جمهور مذهول: «لم أعمل مطلقاً في حياتي وبالتأكيد لن أبدأ الآن». واصلت الأرملة السوداء رفضها قبول ذلك الاقتراح وغادرت السجن في صيف 2013، بعد أن استفادت من اعتبارات تخفيفية.
بعد الإفراج عنها
كان يوم الإفراج عنها عيداً سعيداً لمصوري المجلات الشعبية الإيطالية و«البابارازي». فهي لم تفقد الكثير من جاذبيتها حتى بعد مكوثها في السجن لمدة 16 عاماً، وحال خروجها ذهبت مع إحدى صديقاتها، على الفور، للتسوق في شارع مونتي نابليوني، أحد أشهر أماكن الأناقة في ميلانو، وكانت تحمل على كتفها ببغاء ملوناً ولا تمانع من الرد على أسئلة الصحفيين والمتطفلين. وبكثير من الخبث قالت إنها ستبحث عن عمل في شركة «جوتشي».
ذهبت للتسوق ووضعت على كتفها ببغاء ملوناً