19 ديسمبر 2023

"نفيسة البيضاء".. الجارية الشركسية التي امتلكت نصف بيوت القاهرة وماتت فقيرة

محرر متعاون - مكتب القاهرة

تجذب مجموعة نفيسة بنت عبد الله، الشهيرة بـ«نفيسة البيضاء»، الكائنة في منطقة الدرب الأحمر وسط القاهرة، آلافاً من الزوار وعشاق التاريخ والتراث، على حدّ سواء، للاستمتاع بمعمارها الفريد، والتعرف، عن قرب، إلى قصة حياة واحدة من أشهر «أمهّات المماليك» اللاتي حكمن مصر، خلال نهايات القرن السابع عشر، وأكثرهنّ ثراء، قبل أن ينتهي بها الأمر إلى حياة بائسة، بعد دخول الحملة الفرنسية إلى البلاد، ونجاح محمد علي في الانفراد بالحكم، والقضاء على دولة المماليك في البلاد.

أميرة ثم فقيرة

تبدو حياة نفيسة البيضاء، أقرب ما تكون إلى قصة درامية بامتياز، لامرأة بدأت حياتها جارية في أحد قصور الحكم في مصر، قبل أن تصبح، ذات يوم وليلة، واحدة من أهم النساء في البلاد، واكثرهنّ ثراء، على حدّ سواء، ثم ينتهي بها الأمر فقيرة ومُعوزة، لا تجد من يمنحها كسرة خبز، أو شربة ماء، وهي التي طالما أطعمت الفقراء من أهالي مصر، وسقتهم، عبر مجموعتها التي لا تزال قائمة حتى اليوم، وتضم إلى جانب سبيل للسقاية، كُتّاباً ومدرسة ووكالة تجارية، كانت كثير من محالّها تؤجر حتى وقت قريب، وينفق من ريعها عبر وزارة الأوقاف المصرية على صيانة السبيل، قبل أن يدرج في ثمانينات القرن الماضي ضمن قائمة الآثار الإسلامية.

أعمال خير ونفقات ريع

يرجع تاريخ بناء سبيل وكُتّاب «نفيسة البيضاء» إلى عام ١٧٩٦ ميلادية، وقد بنت الاثنين لتتوج بهما، شأنها في ذلك شأن كثير من أمراء الدولة المملوكية، مجموعتها الخيرية التي ضمت وكالة تجارية، وحمّامين، كان ريعها يستغل للإنفاق على أوجه الخير، ونفقات ريع صغير خصصته لإسكان فقراء المسلمين مقابل مبالغ رمزية، وهي المجموعة التي تعرف بين أهالي منطقة الدرب الأحمر حتى اليوم باسم السّكرية، وهو الاسم الذي استلهمه صاحب جائزة نوبل للآداب، نجيب محفوظ، عنواناً لإحدى اشهر رواياته التي صدرت في ستينات القرن الماضي.

وقد كانت أعمال الخير التي قامت بها «نفيسة البيضاء» سبباً في اكتسابها مكانة كبيرة في نفوس المصريين، رغم أنها كانت زوجة لمراد بك، قائد سلاح الفرسان في جيش المماليك، الذي لقي هزيمة نكراء أمام الحملة الفرنسية، ما دفعه للفرار إلى الصعيد، قبل أن تنتهي حياته هو الآخر على نحو درامي، إثر إصابته بالطاعون.

هل جاءت «نفيسة البيضاء» من جورجيا؟

لا يعرف أحد من المؤرّخين الموطن الأصلي الذي جاءت منه نفيسه بنت عبد الله، وإن ذهب كثيرون منهم إلى أن أصولها تعود إلى بلاد الكرج، «جورجيا حالياً»، وقد كان من عادة ذلك الزمان، أن يتم منح الجارية اسماً عربياً تكتسب من خلاله هويتها الجديدة، قبل أن يتم تعليمها مبادئ الإسلام، وتدريبها على واجبات الطاعة، وقواعد السلوك في بيوت الأمراء. وقد اختير لها اسم «نفيسة» نظراً لأنها كانت باهرة الجمال، وهو المسوّغ الذي انتهى بها للدخول في حريم علي بك الكبير، وكان الأخير مملوكاً من أصول جركسية مثلها، اشتراه أحد أمراء المماليك في مصر، قبل أن تدفعه مؤهلاته الخاصة، من قوة الشخصية والطموح، إلى أن يتدرج في المناصب القيادية العسكرية، حتى تولى منصب شيخ البلد، وهو المنصب الذي كان يلي منصب الوالي العثماني في الأهمية. وعلى المنوال نفسه كانت نفيسة، التي لم تكن تتمتع بالجمال الأخاذ فحسب، وإنما بقوة الشخصية والحكمة، ما جعلها تتفوق على نظيراتها في جناح الحريم المملوكي، فأحبّها علي بك الكبير، واختصها بدار عظيمة كانت تطل في ذلك الوقت على بركة الأزبكية، التي كانت تمثل واحدة من أبرز الأحياء التي ضمت صفوة الأثرياء والنبلاء في مصر، في ذلك الوقت.

«نفيسة البيضاء».. جيش وأسطول من السفن

عاشت نفيسة البيضاء مع علي بك الكبير، سنوات مجده الأولى، التي نجح خلالها في طرد الوالي العثماني من مصر، وانفرد بحكم البلاد، قبل أن يشرع في التوسع عبر قائده، محمد أبو الدهب، فاخضع الحجاز لسلطانه، وسيطر على بلاد الشام، قبل أن يتعرض لمؤامرة من قائده أبو الدهب، ويسقط أسيراً بعد معركة حربية ساخنة، ويموت بعدها بسنوات قليلة، تولى خلالها مراد بك أمور السلطة في البلاد، لتصبح نفيسة من نصيبه، ويجعلها في مقدمة الحريم المملوكي، ويحتفظ لها بما ورثته من زيجتها الأولى من ثروة طائلة. ويقول الدكتور ياسر ثابت في كتابه «قصة الثروة في مصر»، إن نفيسة بعدما انضمت إلى حريم مراد بك، امتلكت، إلى جانب القصور والبيوت والتجارة، جيشاً خاصاً كان يتكون من أربعمئة مملوك، إلى جانب أسطول صغير من السفن، كان يعمل في دعم تجارتها، وحمايتها إذا لزم الأمر.

لماذا كانت لـ«نفيسة البيضاء» مكانة مميزة في المجتمع المصري؟

قدمت نفيسة بنت عبد الله، التي لقّبها المصريون باسم «نفيسة البيضاء»، نظراً لجمالها وبشرتها البيضاء المشربة بالحمرة، حسبما يرى كثير من الباحثين في التاريخ المصري الحديث، نموذجاً يحتذى في العمل الاجتماعي، رغم أنها كانت تمتلك ما يقدر بنحو نصف بيوت القاهرة في ذلك الوقت، حيث عمدت، حسبما يقول الدكتور حسين العطار، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة طنطا، خلال نهاية تسعينات القرن الثامن عشر، إلى توظيف جزء كبير من ثروتها في عمل بعض المنشآت الحيوية التي تؤمّن للناس بعض الخدمات الضرورية، فحظيت بمكانة متميزة في المجتمع المصري. إذ كانت لا تردّ طلباً لوساطة، أو شفاعة، الأمر الذي جعلها تؤدي باستمرار دور الوسيط بين القوى المملوكية والمجتمع، بل إنها كانت تتدخل في كثير من الأحيان لرد المظالم التي كان يرتكبها زوجها في حق المصريين، سواء عبر فرض الإتاوات، أو الإفراط في جمع الضرائب.

سبيل «نفيسة البيضاء»

يطلّ سبيل «نفيسة البيضاء» بشكله نصف الدائري، على الشارع الرئيسي لحي الدرب الأحمر، عبر ثلاث نوافذ، مغشاة بأشكال زخرفية نباتية متشابكة كقطعة من الدانتيلا، ترتكز على أربعة أعمدة ملتصقة بالواجهة، ويتقدم النوافذ الثلاث رف رخامي، خصص لوضع كيزان الشرب التي كانت تستخدم في سقاية المارة، إلى جانب لوحة رخامية ثانية بجانب واجهة السبيل، خصصت لشرب الأطفال وكبار السّن، ما يجعل من السبيل نموذجاً متميزاً للطراز المعماري العثماني في أواخر عهده بالقاهرة، فيما يعلو السبيل كُتّاب علوي، خصص لتحفيظ وتعليم القرآن للأطفال وأيتام المسلمين، بينما تزخر واجهة السبيل والكُتّاب بروائع وجماليات الزخارف الحجرية والرخامية والنحاسية والخشبية، من الوحدات الهندسية والنباتية المجسمة التي انتشرت في العصر العثماني التركي بمصر، والمتأثرة بالطّرز الأوروبية الفنية في عصر النهضة، بالقرنين السابع عشر والثامن عشر، الميلاديّين.

لوحة الرسام الإسكتلندي الشهير ديفيد روبرتس
لوحة الرسام الإسكتلندي الشهير ديفيد روبرتس

يقدم الرسام الإسكتلندي الشهير، ديفيد روبرتس، الذي يصنف باعتباره واحداً من أشهر رسامي المناظر الطبيعية في القرن التاسع عشر، مجموعة من اللوحات البانورامية للقاهرة في ذلك الزمان، وقد نشرت هذه الرسومات لأول مرة في لندن، منتصف القرن الثامن عشر، حيث تظهر إحدى هذه اللوحات البيت الذي أقامت فيه «نفيسة البيضاء»، على بركة الأزبكية، فيما تظهرها لوحة أخرى وهي تملي خطاباً على قائد الحملة الفرنسية في القاهرة، تعلن فيه موافقتها على دفع ما قرّرته الحملة من غرامات مالية ضخمة على زوجها، كعقوبة على مقاومته للحملة، قبل أن تُفاجأ، بعد ذلك بسنوات قليلة، بالمذبحة التي نفذها «محمد علي» في ما تبقى من المماليك، وبقرار من الوالي الجديد يقضي بطردها من بيتها، ومصادرة ما تبقى من ثروتها، لتقضي البقية الباقية من حياتها فقيرة ومعوزة، وهي التي كانت واحدة من اكثر النساء ثراء وحضوراً في مصر.

* تصوير: أحمد شاكر