11 مايو 2020

هل الحسد حقيقة أم وهم؟ وكيف نتجنبه؟

فريق كل الأسرة

 هل الحسد حقيقة أم وهم؟ وكيف نتجنبه؟

حاول المزارع البسيط تجنب رؤية جاره، بعد أن شاع بين الناس أنه «حسود»، ولكن في كثير من الأحوال لم يستطع، فالجيرة تحكم بلقاءات متكررة كل يوم، كما أن الظاهر من ممتلكات الجيران معروف لبعضهم البعض، حتى جاءت اللحظة الفارقة بين الجارين، وماتت البقرة الجميلة التي يمتلكها المزارع في نفس اليوم الذي رآها الجار الحسود فيه، بعد أن تناولت حشائش مسمومة بالمبيدات وهي في طريقها إلى أرض المزارع.


استشاط المزارع البسيط غضباً، ولم يستطع السيطرة على غضبه من جاره، فانتظر حتى دخل الليل، وصعد إلى أعلى المنزل، وأشعل النيران في منزل الجار.
هذه العقيدة تسيطر على كثير من الناس، حيث يعاني هؤلاء «فوبيا الحسد»، ولديهم استعداد لممارسة العنف ضد من يعتقدون أنهم يؤذونهم بنظراتهم الحارقة والمدمرة، والأمر لا يخص البسطاء من الناس فحسب، بل هناك فئات مثقفة ومتدينة تعاني «فوبيا الحسد» وتتهرب دائماً من الظهور أمام المشتهرين بين الناس بالحسد.
هذه الواقعة التي شهدتها إحدى قرى محافظة الغربية- وسط دلتا مصر- تطرح تساؤلات مهمة أبرزها: هل الحسد حقيقة.. أم مجرد وهم يسيطر على نفوس بعض الناس؟ وكيف يتجنب الإنسان شرور الحاسدين؟ 

الحسد طاقة شر 
يؤكد د. محمد المهدي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، أن «فوبيا الحسد» موجودة بالفعل بين كثير من الناس، حيث يخشى هؤلاء الحسد، ويؤمنون بأنه يؤذيهم ويلحق بهم الضرر فعلاً، ولذلك يتجنبون التواصل مع الحاسدين أو رؤيتهم، كما أن بعض الذين يخشون الحسد لديهم استعداد لممارسة العنف الجسدي والنفسي ضد هؤلاء، الذين اشتهروا بالحسد في محيطهم، سواء أكانوا جيراناً في السكن، أو زملاء في العمل.
ويضيف: في الواقع الحسد «طاقة شر» موجودة داخل كل إنسان، لكنها تتضاعف في نفوس هؤلاء الذين ابتلاهم الله بعدم الرضا، ففي داخل كل إنسان غرائز كارهة حاقدة، لكنها تتفاوت في درجتها من إنسان لآخر، وكلما زادت في إنسان حولت حياته إلى جحيم، فالإنسان قد يحسد إنساناً آخر على شيء لديه هو الكثير منه.. قد يحسده على اقتناء سيارة يستطيع هو شراء أفضل منها، وهذا الإنسان كتب الله عليه الشقاء طوال حياته، لأنه لا يشعر بنعم الله التي أنعم بها عليه، ولا يشعر بالنعمة إلا وهي تحت أيدي الآخرين.
هذا الإنسان الحاسد يعيش دائماً تعيساً حاقداً على الآخرين، والحقد يفرض على الإنسان أن يؤنب نفسه، ويندب حظه، ويعبر دائماً عن غضبه، ويتساءل عن سر أو أسرار تفضيل هؤلاء الناس عليه.
مثل هذا الإنسان- كما يؤكد أستاذ الطب النفسي- لا يمكن أن يشعر بالسعادة والرضا، بل هو يعاني دائماً اضطراباً نفسياً، لأنه يفكر طوال الوقت في كيفية إبعاد هذه النعم عن الذين يبغضهم ويحقد عليهم.
والأكثر من الأمراض النفسية الخطيرة، التي تلازم الحاسدين دائما،ً والأمراض العضوية التي تنتج عن هذه الأمراض، والهموم النفسية التي تلاحقهم ليل نهار، فقد أثبتت دراسات طبية- نفسية وعضوية- أن الصراع النفسي الدائم الذي يسببه الحسد للمريض به، يؤدي لأمراض عضوية خطيرة تستمر مع الحاسد، طالما استمر على حقده، حيث يكون معرضاً لأمراض كثيرة وخطيرة.
والحاسد- من خلال تحليل علماء النفس- إنسان سوداوي لا يقنع بشيء في الحياة، مهما أعطيته من نعم الحياة فهو لا يقتنع، يكره من حوله حتى ولو كان هو أكثر منهم صحة وأولادا وثراء.. هو أناني لا يحب إلا نفسه، ولذلك تجده مكروهاً من كل المحيطين به، خاصة إذا ما أدركوا حقيقته، وعرفوا عنه هذه المصيبة التي ابتلاه الله بها، وهذا الإنسان الحاسد لا بد أن يعاني مشكلات كثيرة (نفسية وجسدية) لأنه يفتقد أهم عنصر لتحقيق الطمأنينة للإنسان وهو «الرضا»، فالحاسد لا يرضى بما أنعم الله عليه به، ولا بما رزقه الله به، حتى ولو كان كثيراً.

الحسد ليس وهمًا
وعن الرؤية الدينية للحسد، واعتقاد البعض بأنه مجرد (وهم) أو هواجس نفسية يقول العالم الأزهري د. أحمد معبد، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر: الحسد ليس وهماً، ولا هاجساً نفسياً، بل حقيقة ورد ذكرها في القرآن الكريم، ولخطورة هذه الرذيلة أمرنا الخالق سبحانه وتعالى بالاستعاذة من شرور الحاسدين، فقال في سورة الفلق: «قل أعوذ برب الفلق. من شر ما خلق. ومن شر غاسق إذا وقب. ومن شر النفاثات في العقد. ومن شر حاسد إذا حسد».
وهنا يأمرنا الله سبحانه وتعالى من خلال هذه السورة الكريمة بالاستعاذة من شرور الحاسدين، الذين يستكثرون علينا ما رزقنا الله به من صحة ومال وأولاد، ويتمنون زوال كل نعم الله عنا، فالحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن غيره، دون أن يطلبها لنفسه، ودون أن يستفيد شيئاً من ذلك سوى إشباع شهوة الحقد داخله.
ويضيف: لقد نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الحسد في عدد من الأحاديث النبوية الصحيحة، منها قوله: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا...»، ومنها قوله صلوات الله وسلامه عليه: «إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب».
وهذا المرض النفسي- كما يوضح العالم الأزهري- يجب على المسلم أن يقاومه بالرضا بقضاء الله وقدره، وعدم الحقد على الآخرين، ممن قدر الله لهم رزقا أوفر من رزقه، وصحة أحسن من صحته، ونصيباً من الدنيا أوفر من نصيب من يحسده ويحقد عليه.
والحسد- كما وصفه العلماء- اعتراض على قضاء الله وقدره، فالله سبحانه وتعالى حين خلق هذا الكون قسم الأرزاق، بحيث يكون من عباده الغني ومنهم الفقير والشقي والسعيد والصحيح والمريض.. لكن للأسف الشديد بعض الناس ابتلاهم الله بعدم الرضا بقضائه، فنقموا على من حولهم، بل ملأ الحقد والحسد قلوبهم تجاه كل من يملك شيئا لم يكن لهم نصيب منه، فصار الحسد أحد الأمراض الفتاكة، التي انتشرت في مجتمعاتنا الإسلامية، رغم التحذيرات الشديدة التي حملتها النصوص الدينية من هذا السلوك المذموم، ورغم ما يجلبه الحسد للحاسد من متاعب صحية ونفسية، وقد يدفعه حسده وحقده إلى ارتكاب جرائم يعاقب عليها بعقوبات قاسية.

المؤمن.. لا يحسد
يحذر عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر من سيطرة الحسد على الإنسان، ويقول: الحسد، عدم الرضا بقضاء الله وقدره، وهذا يؤكد أن الإيمان والحسد لا يجتمعان في إنسان، ذلك أن «المؤمن لا يحسد»، وقد وصف بعض العلماء الحسد بأنه «ضعف إيمان وعدم ثقة في عدالة الخالق»، فلا يوجد إنسان صحيح الإسلام قوي الإيمان يكره النعمة التي يتمتع بها غيره، وهذا هو الحسد المذموم.. فالحاسد هنا يتألم ويتأذى لوجود هذه النعمة عند المحسود، ويتلذذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يستفد هو من وراء ذلك.

لا يوجد إنسان صحيح الإسلام قوي الإيمان يكره النعمة التي يتمتع بها غيره

ويقول: من الطبيعة البشرية أن ينظر إنسان إلى ما في يدي غيره، ويتمنى أن يكون مثله أو أفضل منه، وهذا الشعور قد يكون مبرراً، ولذلك يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: «لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق».. وهذا ليس بحسد، فهي غبطة في الخير، وتطلع إلى الأفضل، لكن أن يتمنى الإنسان زوال نعمة الغير- كما يفعل الحاسد- فهذا ما يرفضه الشرع ويدينه.
ولذلك يوجه العالم الأزهري الكبير نصيحة لكل مسلم ويقول: يجب أن يتطلع الإنسان إلى أن ينعم الله عليه بكل النعم التي لدى الآخرين، مع عدم التفاته إلى أحوال الناس حتى لا يكون من الحاسدين أو الحاقدين.. أما الذي يكره الخير للآخرين ويتمنى زواله عنهم، فهذا إنسان يعاني مرضاً نفسياً، وتسيطر عليه غيرة قاتلة.. يجب أن يدرك الجميع أن الحسد: اعتراض على قدر الله، واعتراض على قضائه سبحانه، وتوزيعه للأرزاق، لذلك حثنا رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم أن نتجنب الحسد، لأنه من مسالك الشيطان، فهو أول ذنب ومعصية لله في الأرض، وقد حرصت السنة النبوية على علاج هذه الآفة علاجاً عملياً فقال عليه الصلاة والسلام موجهاً كل المسلمين في كل العصور: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فلا تحاسدوا، ولا تقاطعوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً».

الرضا.. أساس السعادة
د. محمود الصاوي، أستاذ الدعوة الإسلامية ووكيل كلية الدعوة بجامعة الأزهر يلتقط خيط الحديث من د. معبد، ويؤكد ضرورة أن يتسلح المسلم بالرضا والقناعة، ويقول: يجب أن يرضى المسلم بما قدره الله له، ذلك أن الإيمان بقضاء الله، والرضا بما رزق، يريح قلب الإنسان، ويجعله فرحاً بما منّ الله به على إخوانه من المسلمين، ويفتح الباب أمامه- إن كان يريد نعم الله- أن يعمل ويجتهد، ويسأل الله بصفاء قلب أن يعطيه الرزق الوفير، وأن ينعم عليه بما أنعم به على الآخرين.
ومن هنا يؤكد د. عبد الصاوي أن الحسد يفسد الإيمان لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: «...لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد».. ولذلك هو ينصح كل من وجد في نفسه حسداً أن يبدأ في علاج نفسه من هذا المرض القلبي اللعين فيتسلح بالصبر والتقوى، كما أن الحاسد عليه أن يتخلص من البغض والكراهية لحديث النبي، صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا ينجو منهن أحد: الحسد، والظن والطيرة وسأحدثكم بما يخرج من ذلك: إذا حسدت فلا تبغض، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض».
وينصح د. الصاوي كل إنسان تغويه نفسه إلى النظر إلى ما في أيدي الآخرين، ويريد أن ينجو من عقاب الله، أن يذكر الله حينما يرى شيئاً يعجبه، ويردد (باسم الله ما شاء الله) أو يقل حصنتك بالحي القيوم.. أما نصيحته لمن أحس أنه تعرض للحسد 
فليقرأ المعوذتين، فقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحصن نفسه وأهله بهاتين السورتين صباحاً ومساء.

كيف تحمي نفسك؟
يقول العالم الأزهري د. نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، ومفتي مصر الأسبق: ننصح هؤلاء الذين تسيطر عليهم هواجس الحسد أن يسلموا أمرهم لله، فلا نفع ولا ضر إلا بإرادة الله، ذلك أن هناك هواجس نفسية تسيطر على بعض الناس، حيث يعتقدون أنهم محسودون، والأسلوب الأمثل لمواجهة مثل هذه الاضطرابات النفسية، وحالة الهلع والخوف التي تصيب هؤلاء الذين يعتقدون أنهم محسودون، هو قربهم من خالقهم وتعليمهم ما علمنا إياه القرآن الكريم الذي أمرنا بالاستعاذة بالله من شرور الحاسدين، وليس عمل تمائم وأحجبة والاستعانة بأشياء لا تفيد كما يفعل بعض البسطاء.

المسلم الذي يريد أن يحمي نفسه من شرور الحاسدين عليه أن يلجأ إلى خالقه بالدعاء الصادق

ويضيف: المسلم الذي يريد أن يحمي نفسه من شرور الحاسدين عليه أن يلجأ إلى خالقه بالدعاء الصادق، ويتحصن بآيات القرآن الكريم، وعليه أيضاً أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن النافع والضار هو الله، ويردد في كل أحواله: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا».. وأن يرتبط بخالقه، ويتوكل عليه، ويستعيذ به من شرور السحرة والحاسدين، فالتمائم كلها لا تنفع، بل قد تضر المسلم في عقيدته إذا ما اعتقد أنها تفيده وتحميه وتغير من قدر الله له، فالمسلم مطالب شرعا بالثقة في إرادة الله، وفي قدرته على دفع شرور الحاسدين، وعلى أن ما يحدث لنا في هذه الدنيا هو مكتوب ومقدر لنا، حيث يقول سبحانه: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور».. ونحن ننصح المسلم الذي يخشى الحسد أن يردد سورة (الفلق) التي تقيه من شرور الحاسدين والسحرة، كما يردد سورة (الناس) التي تقيه من شرور الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس، فقد يكون ما يعتقده الإنسان من حسد ليس أكثر من وهم.