كانت الهجرة النبوية الشريفة- ولا تزال- من أهم الأحداث الملهمة والفارقة في سيرة رسولنا الكريم ﷺ، حيث جسدت أسمى معاني التضحية، والثقة في الله، وتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى العقيدة التي يؤمن بها الإنسان، وأعطت الهجرة دروساً إنسانية وأخلاقية عديدة ما أحوجنا إلى التعرف إليها، والاستفادة منها للتعامل مع مشكلاتنا المعاصرة، والوقوف عليها للتعامل مع ما يعترض حياتنا في المستقبل القريب والبعيد.. وهذا ما حاولنا التعرف إليه من خلال نخبة من كبار علماء الإسلام:
جبل النور في مكة المكرمة
ماذا حدث في الهجرة النبوية؟
في البداية يوضح لنا عالم السنة النبوية د. أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، ما حدث في الهجرة النبوية الشريفة، فيقول "في هذا الحدث التاريخي انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه من مكة المكرمة إلى يثرب التي سميت فيما بعد بطيبة، ثم (المدينة المنورة)، وذلك بسبب ما كانوا يلاقونه من عذاب واضطهاد من المشركين خاصة بعد وفاة عمه أبي طالب، وكان ذلك قبل فتح مكة المكرمة، وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب استقبله المهاجرون والأنصار بالفرح والسرور، وأخذوا ينشدون الأناشيد ومنها النشيد الشهير (طلع البدر علينا)، وقد تم تغيير اسم يثرب إلى المدينة المنورة بعد هذه الهجرة، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أنارها بقدومه إليها.. وقد تم اعتماد الهجرة النبوية بداية للتقويم الهجري بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب بعد استشارته للصحابة رضوان الله عليهم، ومن بعدها استمرت هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة، حيث نزلت الكثير من الآيات القرآنية التي تحث المسلمين على الهجرة حتى فتح مكة في العام الثامن للهجرة.
وقد بدأت الهجرة عندما اشتد الأذى بالمسلمين في مكة وبصحابة رسول الله بعد بيعة العقبة الثانية، حيث أذن النبي الكريم للمسلمين بالهجرة وحثهم على اللحاق بالأنصار، فبدأ الصحابة بالهجرة سراً إلى يثرب، وكان (أبو سلمة بن عبد الأسد) أول من هاجر إليها، وبعد ذلك تبعه المسلمون جماعات متفرقة وفرادى متسللين ومتخفين عن أعين المشركين والكفار كي لا تعلم بهم فتمنعهم، وعند وصولهم إلى يثرب استقبلهم الأنصار في بيوتهم ونصروهم وآووهم، ولم يبق في مكة المكرمة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق.. وعندما علمت قريش بهجرة المسلمين أرادت قتل النبي الكريم قبل أن يخرج من مكة، فاجتمعت وأقرت بأن يشترك من كل قبيلة منهم شاب ليجتمعوا يدا واحدة في قتل محمد ليتفرق دمه على جميع القبائل، ولكن جبريل عليه السلام أخبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر النبي الأمين علي بن أبي طالب أن ينام في فراشه، كي يظن المشركون بأنه الرسول الكريم، وخرج عليه الصلاة والسلام من بين المشركين دون أن يروه بقدرة الله عز وجل وهو يقرأ قول الله تعالى: «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون»، وعندما أصبح المشركون ساروا إلى فراش النبي ليقتلوه فوجدوا علي بن أبي طالب نائما في فراشه، وسألوه أين صاحبه فأخبرهم علي أنه لا يعلم أين هو، فجن جنون قريش وخصصت جائزة كبرى لمن يعثر أو يدل عليه، وبعدها مكث علي بن أبي طالب في مكة ثلاثة أيام، وقام بإرجاع الأمانات التي كانت عند الرسول الأمين إلى أصحابها، ثم هاجر بعدها إلى المدينة المنورة.
عندما خرج الرسول عليه الصلاة والسلام هو وأبو بكر الصديق تحصنا في غار ثور واختفيا عن أعين قريش، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتي لهما بالطعام، وعبد الله بن أبي بكر يأتي لهما بالأخبار، وصادفهما في طريقهما إلى المدينة سراقة بن مالك وأراد أن يخبر قريش عنهما، وقام الرسول عليه الصلاة والسلام بمناجاة ربه، فغارت فرس سراقة في الرمال، فقال له سراقة: ادع الله أن يفك قدم فرسي ولن أخبر أحداً عنكما، ففعل -عليه الصلاة والسلام- ذلك واستمر بعدها، ومعه أبو بكر في السير إلى يثرب، وعند وصولهم إليها أحسن المسلمون استقبالهما، وأنشدوا لهما الأناشيد ابتهاجاً بوصولهما".
الحكمة من هجرة النبي وخروجه من مكة إلى المدينة
أما عن خروج النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة التقليدية وما فيها من مشقة، فيوضح د.هاشم «كان في مقدور الخالق- وهو على كل شيء قدير- أن ينقل النبي في الهجرة كما نقله في ليلة الإسراء والمعراج، ولكن لله حكمة في ذلك، وهي أن يكون أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الرواد والمصلحون والدعاة والعلماء على سنته ومنواله في بذل أقصى ما في الوسع الإنساني، من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.. وهذا أول درس من دروس الهجرة النبوية، حيث يجب أن يبذل الإنسان أقصى ما يستطيع من جهد في سبيل تحقيق ما يؤمن به، خاصة إذا ما كان الأمر يتعلق بخدمة دينه ووطنه».
هل الهجرة النبوية حدثاً طارئاً؟
ويوضح د. هاشم أن الهجرة لم تكن حدثاً طارئاً نتيجة عداء كفار قريش وتربصهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت حدثاً مرتباً له من الخالق لكى تنتشر دعوة الإسلام في العالمين انطلاقاً من دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة. وقد حدد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الهدف الأساسي للهجرة، وهو حماية الدعوة إلى دين الله، واستكمال نشر الرسالة في أرض تكفل حرية العقيدة، وتضمن الأمن للمسلمين، ولمن رغب أيضاً في دخول الإسلام من العرب.
ويضيف د. هاشم «لقد عرف رسول الإنسانية بأمر هجرته إلى المدينة قبلها بزمن بعيد، حيث علم بها منذ أول إطلالة للوحي، ففي أول آية «اقرأ» يعود مرتعداً للسيدة خديجة، وتذهب به إلى ورقة بن نوفل، ويقول له «هذا هو الناموس الذي نزله الله على موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك».
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم منذ الوهلة الأولى أنه سيهاجر، وتمر الأيام والأعوام ويأتي الوقت الذي يستطلع فيه الناس في أرض الهجرة بصيص النور، ويهرولون في بيعة العقبة الأولى والثانية، وتمضي الأعوام ويأتي وقت الهجرة، ويدعو الرسول المسلمين عندما أطلعه الله على دار هجرته وأراه إياها في المنام، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: «أريت دار هجرتكم.. أرض ذات نخل فمن شاء أن يخرج فليخرج، وليهاجر».
أول الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
التخطيط.. والأخذ بالأسباب
ويؤكد د. عبد الفتاح إدريس، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الدروس والعبر المستفادة من الهجرة النبوية لواقع المسلمين ومستقبلهم كثيرة ومتنوعة، وفى مقدمتها الثقة في الله، والثقة في نصره ودعمه طالما كان الأمر يتعلق بما فيه مصلحة للدين والوطن، وكان التخطيط والإعداد له جيداً ومدروساً، حيث لا يكتب النجاح في الغالب للسلوكيات العشوائية والقرارات المتسرعة، ويبين «لقد بذل رسول الله وصاحبه أبوبكر الصديق كل ما في طاقتهما لإنجاح عملية الهجرة، وهذا هو الإعداد المطلوب من كل إنسان يقدم على أمر جديد على حياته، أن يعد ما يستطيع، وما فوق الاستطاعة ليس مطلوباً، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها».
ويوضح د. إدريس أن التخطيط الجيد لا يعنى عدم الثقة في دعم الخالق للإنسان، إنما يعنى عدم التواكل وترك الأخذ بالأسباب، فالرسول يعلم جيداً أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله، ولذلك فبعد أن بذل أسبابه كاملة تحلى بيقين عظيم في أن ما أراده الله سيكون، ظهر ذلك في عبارته الرائعة: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟».
لذلك يؤكد أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر على ضرورة السعي الجاد لإنجاز أي عمل بعد التخطيط له، وترك النتائج على الله.. «لم يفقد رسول الله روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطرة، وهو يخرج من مكة بهذه الطريقة، وهو مطلوب الرأس، لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه.. وهذا درس آخر من دروس الهجرة وهو التحلي بالأمل والتسلح بالتفاؤل، واليقين في نصر الله ودعمه طالما كانت النية خالصة لوجه الله عز وجل».
اختيار الصحبة الطيبة
أيضاً من دروس الهجرة النبوية البارزة والتي يجب أن يستلهم منها المسلمون العبرة والعظة (اختيار الصحبة الطيبة) وخاصة في الأحداث والرحلات المصيرية، وهذا ما ينبغي أن نتعلم منه جميعاً ونعلمه للأجيال الجديدة.
يقول د. إدريس «لقد حرص رسول الله في كل مراحل حياته، وفي كل خطوات دعوته على اختيار الصحبة، عاش حياته في مكة بصحبة طيبة، وخرج إلى الطائف بصحبة طيبة، وقابل الوفود بصحبة طيبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة طيبة، وها هو يسأل جبريل عن صاحبه في الهجرة، كل هذا وهو رسول الله، ومن سلوك النبي الكريم يجب أن نتعلم ضرورة اختيار الصحبة الصالحة. أيضاً، تعلمنا من رسول الله كيف يعيش القائد في أي عمل أو أية مسؤولية معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، يطارد كما يطاردون، يتعب كما يتعبون، يحزن كما يحزنون، يعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات. ومن سلوك النبي في الهجرة نتعلم قيمة (الإيثار)، وطوال الرحلة المباركة كان إيثار النبي للمرافقين له علامة بارزة في سلوكه».
شخصيات في الهجرة النبوية
وقد رصد مركز الأزهر العالمي للفتوى الالكترونية الشخصيات التي كان لها دور بارز في الهجرة النبوية على النحو التالي:
- علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وكانت المهمة المنوط به محفوفة بالمخاطر، حيث اختاره رسول الله ليبيت في فراشه، لخداع المتآمرين على قتله، وكان علي أصلح الصحابة لهذا الموقف، كونه من أهل بيت النبي فهو ابن عمه أبي طالب، وذلك حتى يتسنى له المبيت في بيته دون حرج، وعلي بن أبي طالب من أوائل من آمن بالله ورسوله، فكان لديه من الشجاعة وقوة الإيمان ما أهله للتصدي لهذا العمل البطولي.
- أبو بكر الصديق، وقد اختاره رسول الله لمرافقته الطريق في رحلته الكبرى من مكة إلى المدينة، فكان نعم الرفيق، وأبو بكر هو أول من أخبره النبي عن الوحي، ولم يتردد لحظة واحدة في تصديق محمد والإيمان بدعوته، وفور أن علم أبو بكر بأمر الهجرة مع محمد، قام بإتاحة كل الإمكانات المادية من وسائل الركوب وغيرها، والإمكانات البشرية متمثلة في أولاده وخادمه لتكون في خدمة الدعوة إلى دين الله.
- مصعب بن عمير، وكان سفير الإعداد للهجرة النبوية، اختاره رسول الله ليكون داعياً إلى دين الله في المدينة، وممهداً لهجرته الوشيكة إلى هناك، فكان مصعب يتمتع بمهارة في الحوار تمكنه من دعوة الناس إلى الإسلام في هدوء، فضلاً عن حفظه الكثير من آيات القرآن الكريم ليؤم الناس في الصلاة، ويعلمهم أمور دينهم.
- عبد الله بن أرقط، دليل الهجرة، وكان رجلاً من كفار قريش، وقع اختيار الرسول وأبو بكر عليه ليكون دليلهما في الطريق إلى المدينة، ورغم كفره فإن النبي اعتمد عليه كدليل في الصحراء، وذلك لخبرة بن أرقط الكبيرة بالطرق ومضايقها، وكان نعم الاختيار حيث سلك بمحمد وصاحبه طريق الساحل، والذي لم يكن مألوفاً حينها، فلم تتمكن قريش من الوصول إليهما.
- عبد الله بن أبي بكر، وكان مهمته استخبارية حيث يقوم باستطلاع أخبار قريش بمكة نهاراً، ثم نقلها إلى رسول الله وصاحبه ليلاً في مأمنهما على الطريق من مكة إلى يثرب، وذلك ليكونا على بينة مما يحاك خلفهم من مؤامرات، فيستطيعا اتقاءها. وكان عبد الله بن أبي بكر الأجدر بالقيام بهذه المهمة الحساسة والخطيرة، فكان قوي العقيدة موثوقاً به، يتمتع بالثبات وحسن التصرف، فضلاً عن أنه لم يكن موضع ريبة من قريش، ما يسهل عليه الحضور في مجالسهم وتقصي أخبارهم.
- أسماء بنت أبي بكر، حيث أدت أسماء دوراً مؤثراً في أحداث الهجرة، فكانت تأتي النبي وأبي بكر بالماء والزاد ليلاً في الصحراء الموحشة، حيث كانا مختبئان في غار ثور بعيداً عن أعين قريش، وكانت أسماء من أوائل الناس إيماناً بالله ورسوله، وهو ما أهلها للقيام بهذه المهمة الخطيرة، غير مبالية بأي خطر في سبيل الله ورسوله.صبر وعزيمة قويةأيضاً من دروس وعبر الهجرة النبوية الشريفة، الثبات على المبدأ وتحمل الصعاب من أجل الوصول للهدف، فالصبر واليقين بالله سر الوصول للأهداف- كما يقول د. محمود الهواري، الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ويضيف «من أهم الدروس المستفادة من رحلة الهجرة النبوية ضرورة التحلي بالصبر والعزيمة القوية لإنجاز الأعمال، وطوال رحلة الهجرة كان رسول الله وصحبه الكرام مثالاً في الثبات على المبدأ والسعي الجاد لإنجاز المهام العظيمة المستهدفة من تلك الرحلة المباركة، وهذا ما ينبغي أن تتعلمه الأجيال الجديدة من المسلمين، فالهمة العالية، والتسلح بالصبر طريق تحقيق الإنجازات».
ويواصل «نعلم أنه لا شيء يتحقق دون إرادة الله، لكن كل انجاز على الأرض يحتاج الى سعى وعمل جاد، ثم التوكل على الله، واليقين بأقداره، والتسلح بهذه القيم النبيلة قد جعل الهجرة رحلة ممكنة، مع أنها بموازين البشر رحلة صعبة للغاية، وتكاد تكون مستحيلة، لما فيها من مخاطر متعددة منها الطرق الوعرة المجهولة، وكثرة العدو، وقلة الزاد، وعدم توافر العتاد اللازم لرحلة بهذه المخاطر، فقد هاجر إلى المدينة من طريق جديد، وكان مطارداً لعدة أيام، والخطر يحيط به من كثرة الأعداء والباحثين عنه طمعاً بمكافأة قريش، وصحب ذلك قلة في الطعام، وعلى الرغم من وجود كل هذه المشاق والعقبات لم يتراجع -عليه الصلاة والسلام- ومضى في هجرته متوكلاً على ربه ومستعيناً به».